البيولوجيا والتطوّر > علم الجينات

جدتي أورثتني شقاءها

استمع على ساوندكلاود 🎧

بداية فلنتعرف على علم حديث نسبياً انطلق منذ سبعينات القرن الماضي حين اكتشف الباحثون عنصراً آخر يحدد المورثات التي سيتم نسخها وترجمتها في النواة، هذا العنصر هو مجموعة الميثيل التي ترتبط بال DNA في كل خلية لتقوم بكبت المورثات التي ترتبط بها، وبذلك تنتقي فقط المورثات المهمة لإنتاج بروتينات هذه الخلية. وبما أنّ مجموعات الميثيل ترتبط بال DNA خارجياً دون أن تدخل في بنيته الحلزونية فقد دعي هذا العلم بعلم وراثة التغيرات فوق الوراثية (Epigenetics)، حيث epi بالإغريقية تعني خارج أو فوق.

اعتقد في البداية أنّ التغيرات فوق الوراثية تحدث فقط في المرحلة الجنينية، ثم اكتشف أنّ زمر الميثيل يمكن أن تضاف إلى DNA البالغين مطلقة شلالاً من التغيرات الخلوية ينتهي بالسرطان، وأحيانا تكون هذه ال"مثيلة" ناتجة عن تغيرات في الحمية الغذائية أو التعرض لكيماويات معينة. وقد أشار العالم Mosh Szyf إلى إمكانية شفاء سرطانات معينة عند الحيوانات بتصحيح التغيرات فوق الوراثية.

المفاجأة الكبرى في الموضوع هي أنّ زمر الميثيل تتضاعف مع تضاعف ال DNA وتنتقل إلى الأجيال القادمة، إذ بيّنت دراسة قام بها Randy Jirtle من جامعة Duke أنّ تغذية إناث الفئران بحمية غنية بزمر الميثيل تسبب تغير لون فراء نسلها بشكل دائم دون أيّ تغير في بنية ال DNA، ويورث هذا التغير مع زمر الميثيل كما تورث الطفرة الوراثية.

كانت أفكار العالمين Mosh Szyf وMichael Meaney أساساً لعلم التغيرات فوق الوراثية السلوكي Behavioral Epigenetics، وقد كرّسا وقتهما لدراسته، وتبين لهما أنّ الصدمات النفسية في ماضينا أو ماضي أسلافنا تترك ندبات جزيئية مرتبطة ب DNA خلايانا نحن.

لتوضيح ذلك قام العالمان بالتجارب التالية:

تم اختيار فئران أمهات بحيث تكون إما شديدة الاهتمام بصغارها أو شديدة الإهمال لهم، وعندما كبر الصغار فُحصت منطقة الحصين hippocampus في أدمغتها وهي المنطقة المسؤولة عن تنظيم الاستجابة للضغوطات. فوُجد أنّ المورثات المنظمة لإنتاج مستقبلات القشرانيات السكرية (الغلوكوكورتيكويد Glucocorticoids) الذي ينظم الحساسية تجاه هرمونات الضغط النفسي كانت ممثيلة بدرجات عالية في صغار اﻷمهات المهملة، والعكس صحيح عند صغار الأمهات الحنونة.

إنّ مثيلة المورثة تعيق عملها لذا فمن الأفضل ألا تتراكم حولها هذه الزمر وتعيق نسخها، وفي هذه التجربة حال إهمال الأمهات السيئة لصغارها من نسخ العدد الطبيعي من مستقبلات الغلوكوكورتيكويد، فأصبحت صغارها شديدة العرضة للتوتر وغير قادرة على التعامل معه.

وللتأكد من أنّ الآثار السيئة نتجت عن سلوك الأم (بإضافة زمر الميثيل) وليس عن مورثاتها، قام Meaney وزملاؤه بتجربة ثانية حيث جاءوا بصغار أمهات مهملة وأعطوها لأمهات حنونة والعكس صحيح، ولاحظوا -كما توقعوا- أنّ الفئران التي ولدت لأمهات حنونة ولكن ربتها فئران مهملة تمتلك مستويات منخفضة من مستقبلات الغلوكوكورتيكويد وسلوكا عصبياً نزقاً، أما في الحالة المعاكسة نمت الفئران لتصبح هادئة وشجاعة وذات مستويات عالية من مستقبلات الغلوكوكورتيكويد.

و لكن ماذا لو كانت هذه التغيرات في الدماغ ليست السبب الحقيقي للتغيرات السلوكية عند البلوغ؟

لدحض هذه الحجة، قام Szyf وMeaney بتجربة أخيرة حيث قام بحقن أدمغة أمهات سيئة بمادة تريكوستاتين A، وهو عقار قادر على إزالة زمر الميثيل، فكانت النتيجة أنّ هذه الحيوانات لم تبد أياً من الاضطرابات السلوكية المتوقعة منها ولم تبد أدمغتها أيّاً من التغيرات فوق الوراثية السابقة. نشرت هذه اﻷبحاث في مجلة Nature Neuroscience في عام 2004.

في عام 2008 انتقل العالمان إلى إجراء تجاربهما على البشر حيث قارنوا أدمغة أشخاص ماتوا منتحرين بأدمغة أشخاص آخرين ماتوا فجأة لأسباب أخرى، فوجدوا في الحالة الأولى فرطاً في مثيلة المورثات في منطقة الحصين وهي منطقة تحكم مصيرية باكتساب الذاكرة والاستجابة للضغوط. ولوحظ أنّ المثيلة تزداد أكثر في حال تعرض هؤﻻء الأشخاص إلى إساءات جسدية في صغرهم.

كما لجأ Szyf إلى مقارنة مستويات المثيلة بفحص عينات الدم (لاستحالة فحص دماغ شخص حي)، فتبين له وجود اختلافات فوق وراثية واضحة في 6176 مورثة من أصل 20 ألف مورثة فحصها في عينة من 40 شخص انقسموا بين الثراء الفاحش والفقر المدقع في أيّ مرحلة من حياتهم، وبالطبع كانت مستويات المثيلة مرتفعة عند الفقراء، كما كانت الزيادة في المثيلة أكبر في حال كان الشخص فقيراً في طفولته.

كما وجد في دراسة أخرى ارتفاع مستويات المثيلة عند أطفال المياتم مقارنة بمن عاشوا مع ذويهم وذلك في عدة مورثات مسؤولة عن الاتصال العصبي وتطور الدماغ ووظائفه، وﻻحظ أنّ الانفصال المبكر عن الوالدين البيولوجيين يترك آثارا سيئة على البرمجة بعيدة المدى لوظائف الجينوم.

أوضحت تجارب أخرى أن التغيرات الوراثية في الفئران تمحى عادة ولكن ليس بشكل تام، حيث تشق المورثات المتأثرة طريقها إلى الجيل التالي.

الأشخاص الذين نجوا من تجارب فظيعة كالحروب والمذابح الجماعية والجرائم الإثنية والعنصرية كالسود واليهود والأرمن والكثير غيرهم، وكل من ولد لأبوين كحوليين أو مسيئين، كل هؤلاء يحملون معهم أكثر من مجرد ذكريات.

ما زالت الأبحاث تتراكم عن هذا الموضوع ولكن إذا كان صحيحا تماماً أنّ التغيرات فوق الوراثية تكمن خلف ذكائنا العاطفي والفكري وميلنا إلى الهدوء أو الخوف وقدرتنا على التعلم أو النسيان، فالسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: "لماذا ﻻ يمكننا ببساطة أن نتناول عقارا "يغسل" مجموعات الميثيل غير المرغوبة؟"

تبحث بعض شركات الأدوية الكبرى وبعض شركات التقانات الحيوية عن مركّبات فوق وراثية ترفع سوية عملية التعلم والذاكرة، كما يسهل توقع إمكانية شفاء الاكتئاب والقلق وآثار الصدمات النفسية بهذا النمط من العلاج.

و هنا يمكن طرح سؤال أخطر: كيف نتأكد من أن هذه العقاقير ستزيل فقط زمر الميثيل الضارة وتترك الضرورية؟ وماذا لو تمكنا من صنع حبة دواء قادرة على مسح ترسبات تاريخ أجدادك كاملاً من الحروب والاغتصابات وهجران الأطفال والإساءة للطفولة، هل ستتناولها؟

المصدر: هنا