الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

تحليل أسطورة التكوين البابلية

هذا المقال تحليل لنص أسطورة التكوين البابلية الذي عرض في المقال www.syr-res.com/article.php?id=1874

لقد قرأنا في مقالنا السابق عن الديناميكية التي رافقت عملية الخلق في الأساطير العراقية القديمة والتي جعلت من ذلك المفكر الذي كتب قبل ما يزيد عن 4 آلاف عام أسطورة الخلق البابلية، أحد أعظم المفكرين في العالم القديم حيث تمكن من تخيل جميع المظاهر الطبيعية المحيطة به.

لذا في مقالنا هذا سنحاول التعمق أكثر في أسطورة الخلق البابلية لكشف وتحليل ما أخفته ثقافة أهل الرافدين وراء قصة التكوين. فأولاً، انبثق الكون من الماء الأول، الذي وكما أوردنا في تحليل التكوين السومري، يعود إلى تفسير يونغ عن الذاكرة الجمعية في اللاشعور الإنساني، مذكرا بحالة الجنين السابح في بحر رحم أمه الأول.

وبما أنه لا يمكن أن يوجد شيء دون أن يكون له اسم فتعبير "لم يكن هناك سماء لم يكن هناك أرض"، أي أنها بدون اسم وربما تعبير أفلاطون كان خير وسيلة للتعرف على الطبيعة الحقيقية لمبدأ الاسم، إذ يقول أن المعلومات هي انعكاس لاسمها الصحيح، أي أن اسم الشيء هو تمثيل حقيقي له، مما يجعل الاسم مساويا للشيء ذاته روحياً.

كما نجد أن الفكرة المركزية في التكوين البابلي كانت في مبدأ المُوجد، والتي كما ذكرنا بأنها المياه الأولى ويبدو أن تعبير الفيلسوف الصيني لاوتزو عن العنصرين المكونين للكون "أبسو" المياه العذبة، و"تيامة" المياه المالحة، بأنهما متوازيان كقطبين متعادلين، يمكن أن يعبر عن طبيعة كل منهما. أي أنهما مادة وروح إلهية متحدتين ومشاركتين في الوجود، وقد ضموا جميع العناصر التي استخدمت فيما بعد لصنع الكون وتشكيله.

ومن المثير للانتباه هنا، أن البابليين، على خلاف السومريين المحافظين على بعض عناصر الموروث الأمومي، وضعوا مع الآلهة المؤنثة الخالقة "تيامة" إلهاً ذكراً "أبسو" ثم جعلوا الآلهة الأنثى لاحقا تمثل الشر وهو تغير في طبيعة المجتمع نتيجة دخول الجذريين إلى العراق، ذوي الحياة البدوية والنظام الأبوي.

حيث نجد لاحقاً المشهد أصبح كالتالي: تلتقي مياه النهرين العذبة "ابسو" بمياه البحر"تيامة" وتمتزج فيه والسحب المنخفضة "ممو" تظلل المياه، كما يُرى الطمي ممثلا بالآلهة المولودة "لخمو" و"لخامو"، وهو ينفصل عن الماء ويظهر للعين ويتراكم في حلقة فسيحة هائلة منتجاً الأفق "إنشار" سطح الحلقة و"كيشار" أسفل الحلقة حيث تنشأ بتراكم الأيام والسنين السماء "أنو" ثم الأرض "أيا".

إذاً إن القوى السكونية المتمثلة في الثالوث (أبسو، تيامة، ممو) تنتج في صميمها القوى الحركية المتمثلة في الآلهة الجديدة، ومن صراعها يظهر الوجود بكل مظاهره، حيث أن تذمر "أبسو" من سلوك الآلهة الفتية يشير إلى نزوع المادة البدائية إلى السكون ومقاومتها الحركة. إذ أدخلت الآلهة الفتية النظام والحركة والنور إلى هذا العالم الذي كان يسوده الفوضى والركود والظلام، فقد أرادت الأخيرة أن تخلق مكانا لها في العالم وتقييد امبراطورية الفوضى.

وهكذا نجد أن مبررات النزاع، تكمن في اختلاف الخصائص بين قوى الشر (الظلام، العدم، الموت، الفوضى) وقوى الخير (الضياء، الوجود، النظام)، ولعل هذ النزاع بين جيل الأبناء والآباء تبعا للتحليل النفسي يعود لعقدة اوديب ورغبة الابن في التحرر من سلطة الأب وإبراز شخصيته.

وكما قرأنا سابقاً فقد حققت الآلهة الفتية انتصارين على القوى البدئية القديمة، متمثلة بانتصار "أيا" على "ابسو" عن طريق قوة الكلمة والسلطة في أمره، حيث أخذت نومة الموت "ابسو" وشلت حركة المياه العذبة في جوف الأرض، وفوق المياه بنا "أيا" مسكنه على "ابسو". وهنا نفسر قتل الآلهة لـ"ابسو" لأنه نوى التخلص من الآلهة الفتية، حيث رأت الشعوب القديمة فعل الشر أساسه النية الشريرة ولذلك وجب عقابه.

إذاً إن الانتصار الأول تحقق عن طريق السلطة لا عن طريق العنف. أما الانتصار الثاني تجسد حين حاولت تيامة الثأر لـ"ابسو" حيث أن مبدأ الثأر كان جزءاً من التكوين الفكري للشعوب القديمة، إلا أن الوسائل الغير مشروعة (المخلوقات الغريبة والوحوش) التي استخدمتها "تيامة" كانت ممنوعة، لذلك وجب عقابها وهزيمتها من قبل مردوخ، الذي استخدم الشباك وقوى الرياح ومبدأ القوى الخالقة للكلمة الإلهية، ولعل العنف الذي رافق عملية الخلق ما هو إلا صورة عن العنف الذي تتميز به البيئة الطبيعية التي ظهرت فيها حضارة وادي الرافدين.

وإن الصراع مع الشر كان إحدى الافكار الأساسية التي سادت الشرق القديم، فقد كانت "تيامة" كمياه تشكل تهديداً خطراً لسكان السهل الشرقي من الرافدين حين تفيض، أما انحسارها فهو دليل على اندحارها أمام الآلهة الفتية. وهنا نجد أن انتقال البشرية من مرحلة الثقافة الأمومية إلى الأبوية، تجلى واضحاً في الصراع بين "تيامة" و"مردوخ"، والذي يندرج أيضا في صراع الفرد في بناء شخصيته محاولاً التخلص من الاعتماد على الأم.

ولكن لنقف قليلا عند شطر "مردوخ" لـ"تيامة" إلى نصفين من أجل خلق السماء والأرض، لكن السؤال يكمن أنه لماذا خلق السماء و الأرض في وقت كان "أنو" و"أيا" يمثلان السماء والارض على التوالي؟! ولعل التفسير الأفضل لهذا يكمن بأن "انو" يمثل القوى الكامنة وراء السماء غير السماء نفسها، وكذلك "أيا" هو القوى الكامنة وراء الأرض وليس الأرض ذاتها.

ولابد لنا من أن ننتبه إلى أن السيادة المطلقة كانت للإله الذكر المتمثلة في العقل والخلق، حيث أن العالم والوجود إنما هو أحد اشتقاقات الفعل "كن" أي يوجد و"يكون" أي يخلق، لذا فالأمر بـ"كن" له قدرة سحرية لغوية تؤدي بمجرد نطقها من إله أو ملك أو كاهن إلى "الكينونة"، أي الوجود الواقعي المتحقق "كيانا". إذاً إن دخول الكلمة الخالقة إلى التكوين البابلي تعبر عما وصل إليه التطور السياسي في المجتمع الإنساني في بلاد الرافدين تعبيراً عن وجوب الطاعة الكاملة الغير مشروطة.

أما فكرة وجود البشر والولادة فقد كانت مسالة خاصة بالأم وحدها ولم يكن للذكر دور يمكن ملاحظته، لكن دخول الثقافة الذكورية، كما أوردنا سابقاً، قلب الموازيين، فحيث يتم الخلق من الدم باعتباره المادة المعروفة لتكوين الجنين وليس لديهم مادة أخرى، فنعتقد أنهم عمدوا إلى الدم لتكوين الإنسان الذي إذا جرح سال دمه وإذا فقده مات. لكنهم هنا استبعدوا دم الأنثى واستبدلوه بدم ذكر وبما أن الذكر لا يحيض إذن فليذبح، ومن هنا نتبين خلق الإنسان من دم الإله "كينجو"، الذي كان من أتباع "تيامة" وأوجب قتله بعد انتصار "مردوخ" عليها.

"قتل كنجو وقطعت شرايينه

سال الدم

ومن الدم خلق الإنسان"

وهكذا نظن بأن الفكر الذكري قد حقق سلطان فلسفته ثم ضمنها لظاهرة الموت، فالإنسان يموت لأنه تكون من دم إله ميت، وربما هنا نستوقف قليلاً لنجد أن الإنسان خلق من دم إله شرير لنتذكر هوبز القائل بأن الطبيعة الحقيقية للإنسان تكمن في كونه كائنا شريرا في الأصل.

وهكذا نجد أن التكوين الأكادي أو البابلي لم يختلف كثيرا عن سفر التكوين السومري، بل رُددت مفاهيم سومرية حول الآلهة وطبيعتها مع اختلافات وتعديلات تتلاءم مع التطور الذي لحق النظام الاجتماعي الذي أرسى نهائياً دعائم الذكور وعبادتهم، ولعل الصراع والاحتراب ما بين الآلهة القديمة والحديثة، وتغلب الأخيرة وإحلالها النظام بدلاً من العماء وخلق الكون والإنسان، كل هذا وغيره يصور لنا صراع العراقيين الأوائل مع بيئتهم الطبيعية والسيطرة عليها وبناء الحضارة.

المصادر:

دراسة في الأساطير: الآلهة في رؤية الإنسان العراقي القديم، تأليف د. أسامة عدنان يحيى

منابع سفر التكوين، سيد القمني

مقدمة في أدب العراق القديم، طه الباقر

مغامرة العقل الأولى، فراس السواح

Myths From Mesopotamia، translation by Stephanie Dalley

مصدر الصورة:

هنا