الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

تحليل أسطورة التكوين السومرية

هذا المقال تحليل لأسطورة التكوين السومرية التي عرضناها في مقال سابق هنا .

بعد قراءتنا لقصة التكوين السومرية نجد أن الشرق قد قدم ولأول مرة أقدم تصور عن الخلق والنشوء والآلهة وطبيعتهم وتكاثرهم. لذا لا يسعنا في هذا المقال سوى تحليل ما قدمه السومريون في أسطورة التكوين خاصتهم، حيث تخيل السومريون الأرض "كي" قرصاً منبسطاً هو الدنيا وإن صعدنا قليلاً نجد قرصاً أخر هو السماء "أن" ومابين القبة السماوية والقرص الأرضي يمرح الريح أو الهواء "أنليل" وكل هذا في بحر لا متناه يحيط بالكل من جميع الجهات وهذا البحر "نمو" كان في اعتقادهم منبع كل الوجود ومادته الأولى.

فقد استنتج السومريون ما سموه بالبحر الأول المتمثل بالآلهة "نمو" على أنه السبب الأول للوجود، حيث يعتقد البعض لا سيما أتباع مدرسة التحليل النفسي أن نظرية الميلاد المائي لدى الشعوب القديمة تعد انعكاساً لذكرى كامنة في اللاشعور حول حالة الجنين في ماء الرحم للأم، سابحا في بحره الأول.

كما نجد أنهم صوروا منشأ الكون مؤنثاً فقط "المياه الأزلية نمو "التي ولدت السماء "أن" و"كي" الأرض وهذا يذكرنا بالموروث الأمومي الذي مازال موجوداً عند السومريين، إذاً إن المحيط "نمو" كان أنثى وذكراً في ذات الوقت، كان آلهة لديها القدرة على التوالد الذاتي. لكن الثقافة الأبوبية والسلطة الذكورية عادت لتفرض نفسها في أسطورة التكوين السومرية، التي لم تستطع سوى الحفاظ على بعد العناصر من الثقافة الأمومية، حيث نجد لاحقاً ولادة ابن الأرض والسماء الإله "أنليل" (الهواء، الليل، العتمة، الريح) ليفصل البحر الأول "نمو" بين مياه ومياه، فرفع المياه الذكر "أن" إلى الأعلى ليصبح سماء وحط بالمياه الأنثى إلى الأسفل لتصبح أرضاً "كي"، وهذا الترتيب للذكر في الأعلى والأنثى في الأسفل، على خلاف المصريين المظهرين أكثر للثقافة الأمومية فالأنثى هي من في الأعلى، هو أكبر دليل على الثقافة الأبوية التي بدأت تتدخل لاحقا في منشأ الأساطير. كما أن هذا الفصل ذكرنا بنظرية فرويد عن عقدة أوديب، فالرغبة المكبوتة في لاشعور الطفل المتمثلة بإبعاد الأب والاستئثار بالأم، نجد مكانا لها هنا حيث قام "أنليل" بإبعاد أبيه السماء "أن" والبقاء في الأرض مع أمه "كي".

كما نجد أيضا بأن "أنليل" بفصله السماء عن الأرض كان قد حدد لكل منهما هويته وذاتيته وشخصيته المستقلة، ليكون عمله الاَخر بأن يحيل الظلمة إلى ضياء، لذلك خلق إله القمر"نانا"، الذي بدوره أنجب إله الشمس "أوتو". ويبدو واضحاً هنا أن ولادة القمر "نانا" من الهواء "أنليل" لا تبتعد كثيراً عن النظريات القائلة بتشكل الأجرام السماوية من السحب الغازية.

ولعل الملفت هنا في القصة هو ولادة القمر "نانا" قبل الشمس وكونه أباً لها، حيث يعود هذا إلى أسبقية عبادة القمر على عبادة الشمس في المجتمعات البدائية السابقة لظهور الحضارات حيث قدست القمر واعتبرته رمزاً للأم الكبرى (إلهة المجتمع الأمومي) وقدمته على الشمس التي كانت رمزاً للذكر.

وهكذا بعد تفسير تسلسل الآلهة السومرية، لا بد لنا أن نقف عند خلق الإنسان، فقد قام الإله "أنكي" الإله الحكيم بخلق الإنسان، من الملاحظ أن اسم "أنكي" يجمع بين "ان" السماء و"كي" الأرض، إنه يجمع بين إلهين ذكر وأنثى، ومن هنا تأتي حكمته، فهو مكون أنثوي وذكري في آن معاً، وهو العقل المشترك لأبوي الحياة. فبعد أن كان الآلهة مضطرين إلى العمل لكسب عيشهم مستخدمين المنجل والفأس وغيرها من الأدوات، كان أنكي الإله الحكيم، غارقا في النوم، فقصده الإله وأمه "نامو"، ولذلك قرر خلق الإنسان، وإنهاء معاناة الآلهة.

وهكذا وكما نوقش سابقا نجد أن السومريون كانوا قد قدموا أقدم تفسير للكون في أسطورتهم التي حاولت الحفاظ على بعض مكنونات الثقافة الأمومية في هيكليتها، واستطاعت تفسير الخلق تبعا لسلسلة العوامل الطبيعية التي رافقت منطقتهم وبذلك قدمت أقدم صورة صاغها العقل البشري في تفسير الكون.

المصادر:

دراسة في الأساطير، الآلهة في رؤية الإنسان العراقي القديم، د. أسامة عدنان يحيى

منابع سفر التكوين، سيد القمني

مغامرة العقل الأولى، فراس السواح

مصدر الصورة:

هنا