كتاب > روايات ومقالات

قَوْزاقُ (الدُّون الهادئ) وحروبُهم في ملحمة شولوخوف

استمع على ساوندكلاود 🎧

رواية (الدُّونُ الهادئ) لميخائيل شولوخوف، روايةٌ من 4 مجلداتٍ باللغةِ العربية، تتجاوزُ الألفَيْ صفحة، تدورُ أحداثُها في منطقةِ الدُّون جنوبيَّ روسيا، بَدْءًا من قريةِ تتارسكي القَوْزاقيّة، وصولًا إلى موسكو.

تتكونُ عائلةُ ميليخوف المزارعةُ التركيةُ الأصلِ من أبٍ وأمٍّ وثلاثةِ إخوة؛ البطلِ غريغوري، وأخيه الأكبرِ بيوتر، وأختِهم الصغرى، بالإضافةِ إلى نتاليا زوجةِ غريشيا، وأكسينيا عشيقتِه. تدورُ أحداثُ الروايةِ قبلَ بدايةِ الحربِ العالميةِ الأولى بقليل، وتستمرُّ إلى نهايةِ عامِ 1920، عندما أَحكمَت القواتُ البَلْشَفِيّةُ قبضتَها على منطقةِ الدُّونِ القوزاقيّة.

غريغوري ميليخوف أو غريشيا كما يحلو لعائلتِه وأصدقائِه مناداتُه، شابٌّ أسمرُ قوزاقيّ، من قريةِ تتارسكي. هو البطلُ الذي نرافقُه في أكثرَ من 2000 من الصفحاتِ التي قدّمها لنا ميخائيل شولوخوف، عارضًا حياةَ منطقةِ الدُّونِ في جنوبِ روسيا على مدى 5 سنوات، تبدأُ منذ عامِ 1915 حينَ انضمامِ روسيا إلى الحربِ العالميةِ الأولى لمحاربةِ الألمان، وصولًا إلى عامِ 1920 وسيطرةِ القواتِ البَلْشَفِيّةِ على منطقةِ الدون. يصورُ لنا شولوخوف حياةَ أسرةٍ قوزاقيةٍ خلالَ هذه الأعوام، وكيف أثّرت الحربُ عليها وعلى سائرِ أُسَرِ القوزاق.

أما غريشيا، فنراه في بدايةِ الروايةِ ذلك الفتى الطائشَ الغارقَ بملذّاتِ الحياة، والذي أحَبَّ أكسينيا زوجةَ جارِه، على الرغمِ من تزويجِه من نتاليا، فنراه يهربُ من قريتِه لكي يستطيعَ البقاءَ مع أكسينيا فقط. هذا الحبُّ الجارفُ يستمرُّ جريانُه على طولِ صفحاتِ الروايةِ كجريانِ نهرِ الدُّون، إذْ تتعرضُ هذه العلاقةُ للكثيرِ من الـ(مطبّاتِ) والإخفاقاتِ والولهِ الشديد، ولكن يبقى عنوانُها العريض: حبٌّ حتى الموت.

فبعدَ نهايةِ الجزءِ الأول، الذي كان تعريفًا عامًّا بشخصياتِ الروايةِ والمكانِ والزمانِ الذي بدأت فيه الأحداث، يبدأُ شولوخوف الجزءَ الثاني من ملحمتِه بالانتقالِ من نهايةِ أحداثِ الحربِ العالميةِ الأولى على الجبهةِ الروسيةِ الألمانية، إلى تصاعدِ القوةِ البلشفيّةِ وحدوثِ ثورةِ شباط، وما تلاها من ثورةِ أكتوبر البلشفيّة، وما بينهما من أحداثٍ داميةٍ وتأثيرِ مجرَى تلك الأحداثِ على منطقةِ الدُّون، وانقسامِ القوزاقِ ما بين مؤيدٍ للبلاشفةِ ومؤيدٍ للقوزاقِ البِيض. تميّزَ الجزءُ الثاني بسردٍ تاريخيٍّ دقيقٍ للأحداث، مع وصفٍ فائقِ الدقةِ للمعاركِ والمذابحِ المتبادَلةِ بين الأطرافِ جميعًا.

تستمرُّ الأحداثُ المؤلمةُ حدَّ النخاعِ في الجزءِ الثالثِ والرابع، إذْ نرى تحوُّلَ غريشيا ميليخوف تحوُّلًا ملحميًّا؛ من مقاتلٍ في صفوفِ البلاشفة، إلى جنديٍّ في صفوفِ متمرِّدِي قريةِ تتارسكي، فقائدًا للفَيْلَقِ الأولِ من جيشِ المتمرِّدين. معظمُ الأشخاصِ المحوريةِ التي تابعناها في الجزأينِ الأوَّلَيْنِ لَقُوا حتفَهم ضحايَا للقتلِ المتبادَلِ بين طرفَي الصراع، وهي نتيجةٌ طبيعيةٌ للحربِ الأهليةِ حيثُما دارت.

يبدعُ شولوخوف في الجزأينِ الأخيرينِ بالعرضِ التفصيليِّ للأحداث، والمحاوراتِ النفسيةِ للشخصيات، إذْ تمرُّ معنا في الروايةِ كلِّها أكثرُ من 600 شخصيةٍ تَصِفُ حياةَ القوزاق؛ من بسطاءِ الناسِ في تلك الحقبةِ، وعاداتِهم وتقاليدِهم، وكذلك أحلامُهم ومطامحُهم.

وتبقى من أهمِّ المحاور: المحاكمةُ الأخلاقيةُ للحربِ وتأثيراتِها والجدوى منها، إمّا على لسانِ غريشيا، أو على لسانِ المسنِّينَ الذين نشاهدُهم في مَعْرِضِ الأحداث. فتجسيدُ الحربِ الأهليةِ الروسيةِ بأعنفِ صورِها عبر تلك الصفحات، يجعلُ القارئَ حائرًا؛ مع من يجبُ أن يتعاطف؟ ومَن يملكُ الحقَّ في السلطة؟ وفي المحصلة، فإن هذه رسالةٌ مهمّةٌ أراد ميخائيل شولوخوف إيصالَها، فعندما يتصارعُ أبناءُ الوطنِ الواحدِ من أجلِ السلطةِ لن يكون هناك منتصرٌ وخاسر، بل خاسرٌ واحدٌ فقط؛ هو الوطن، وهذا ما نراه جليًّا في نهايةِ الرواية، وأثرِها على العائلةِ القوزاقية؛ عائلةِ ميليخوف.

يتنقلُ شولوخوف بخفةٍ بين الجِدِّ والمرح، بين الألمِ والفرح، بين الدراما والكوميديا؛ فيجعلُ قارئَه يضحكُ ويحزن في الكتابِ نفسِه؛ واصفًا الشخوصَ والأحداثَ نفسَها. وأكادُ أجزِمُ أنّ أحدًا لم يقرأ هذه الروايةَ بهدوءٍ لم يحزنْ ويذرِفْ دمعًا في جزءِ وفاةِ نتاليا زوجةِ غريغوري، ومشهدِ تكلُّمِ غريغوري مع ولدَيْه بعدَ وفاةِ والدتِهما، أو لم يضحكْ على أحدِ أحاديثِ بانتلاي العجوزِ مع زوجتِه.

(الدُّونُ الهادئ) ملحمةٌ شعبية، تعكسُ فيها حياةُ البطلِ تقلُّبَ التاريخ. لوحةٌ تاريخيةٌ عن قَوْزَاقِ الدُّون، يعيشُ فيها القارئُ أحاسيسَ أبطالِها؛ يُقيمُ في أكواخِهم، ويجلسُ إلى موائدِهم، ويشاركُهم همومَهم ومشاكلَهم. وتمتدُّ الثورةُ إلى منطقةِ الدُّون، فتغرقُ في دماءِ الحربِ الأهلية، ويتناوبُ على احتلالِها الحُمْرُ تارةً، والبِيضُ تارةً أخرى، وينظرُ القارئُ بأعينِ سكّانِها إلى التغيُّرِ المفاجئِ في مصائرِهم، ويقفُ معهم محتارًا في اتخاذِ القرارِ الحاسم؛ في صفِّ مَن هم؟

الكتاب: الدون الهادئ

المؤلف: ميخائيل شولوخوف

ترجمة: علي الشوك _ امجد حسين _ غانم حمدون

دار النشر: دار رادوغا، دار المدى

عدد الصفحات:

الجزء الأول : 570

الجزء الثاني: 516

الجزء الثالث: 570

الجزء الرابع: 754

نوعية الكتاب: ورقي قطع متوسط.