منوعات علمية > العلم الزائف

سلسلة العلم الزائف : مفهوم نصف الكرة المخية السائد... وداعاً!

الدّماغ، أكثر أعضائنا حيويةً يتألف من المخ وأجزاءٍ أخرى هامة... حيث تتألف كرة المخ من نصفي كرة مخية متماثلان إلى حد كبير، ويقسم كل منهما إلى عدد كبير من التلافيف بواسطة أثلام صغيرة، وعلى هذه التلافيف تتحدد الباحات الوظيفية للقشرة المخية.

بالنسبة لمعظم وظائف الدماغ الحسية والحركية، فإن كل نصف كرة مخية يكون مسؤولاً عن النصف الآخر من الجسم بشكل كاملٍ تقريباً، فمثلاً عندما تشعر بالألم بقدمك اليمنى، فإن مخك الأيسر هو من يقوم بتفسير هذا الشعور، وكذلك عندما تلمس شيئاً بارداً بيدك اليسرى فإن مخك الأيمن هو من سيخبرك أن الشيء الذي في يدك بارد! أما عندما تقوم بالكتابة بيدك اليمنى فإن الأمر يكون قد صدر عن الباحة الحركية في مخك الأيسر، وهكذا.... أما بالنسبة للوظائف الأكثر تعقيداً (كالتفكير أو اتخاذ القرارات) فإن العمل يكون مشتركاً بين النصفين الأيمن والأيسر، المتصلان دوماً. إذ يتصل نصفا الكرة المخية ببعضهما عن طريق "الجسم الثفني corpus callosum" وبنىً أخرى.

ولكن للأسف من المعلومات المنتشرة أنك إذا كنت تستعمل يدك اليمنى للكتابة، فإن مخك الأيسر يكون مسيطراً على الجسم (ويُسمى نصف الكرة المخية السائد)، أما إذا كنت تستعمل يدك اليسرى فإن النصف الأيمن هو المسيطر. ويقال أنّ لنصف الكرة السائد تأثيراً على شخصية الفرد، فيكون صاحب تفكير منطقي، تحليلي، ويهتم بالتفاصيل إذا كان المخ الأيسر هو السائد لديه، بينما يكون مبدعاً وعفوياً إذا كان النصف الأيمن هو السائد. فأين العلم اليوم من هذا العلمِ الزائف؟

لقد فشلت جميع الدراسات التي تم إجراءها لإثبات صحة أيٍّ من الفرضيات السابقة، وبالعكس فإن جميع الأدلة تشير إلى عدم وجود أي ارتباط ما بين اليد المستعملة بالكتابة وشخصية الفرد.

في الحقيقة، إن القول أساساً بوجود (نصف كرة مخية سائد) هو قول غير دقيق علمياً، فنصفا الكرة المخية يعملان ويتعاونان معاً من أجل تحقيق الوظائف المعقدة التي يقوم بها المخ. ولكي نكون أكثر دقة من الممكن استخدام لفظ "التخصص الوظيفي لنصف الكرة المخية" فقد توجد بعض الوظائف التي يكون مركزها الرئيسي في نصف كرة دون الأخرى، كباحة الإدراك اللغوي الموجودة في نصف كرة واحد دون الآخر، أو باحة الإدراك الفراغي الّتي تكون موجودةً في النصف الآخر فقط.

أُجري عدد كبير من الدراسات على الفروق بين كل من نصفي الكرة المخية، ومن أهمها وأحدثها، تلك التي نُشرت منذ عدة أشهرٍ على صحيفة PLOS والتي قام الباحثون فيها بتقسيم كل نصف كرة مخية إلى 7266 منطقة مختلفة ودراسة كل منطقة على حِدَة عند 1011 شخص مشارك لمدة سنتين، وباستخدام تقنية الرنين المغناطيسي الوظيفي، وسنقوم بشرح مبسّط لهذه الفروق. يمكن تقسيم هذا الفروق إلى فروق بنيوية وفروق وظيفية.

• الفروق البنيوية:

وهي التي تتعلق ببنية أو شكل جزء معين من المخ. فقد لوحظ أن الفص الجبهي قد يكون في بعض الأحيان أكبر قليلاً في القسم الأيمن منه في الأيسر، وبالعكس فالفص القفوي قد يكون أحياناً أكبر في القسم الأيسر. سبب هذه الاختلافات البسيطة غير معروف ولكن بعض الدراسات تقترح ارتباطه بعوامل وراثية وبالجنس.

• الفروق الوظيفية:

وهي الفروق التي تتعلق بوظيفة معينة للمخ حيث يكون أحد نصفي الكرة مسؤولاً عنها دون الآخر.

فمثلاً "باحة فيرينكه" و "باحة بروكا" المسؤولتان عن الإدراك اللغوي والكلام تتواجدان في نصف الكرة الأيسر (عند 96% ممن يكتبون باليد اليمنى، و70% ممن يكتبون باليد اليسرى) وبالتالي فإن النصف الأيسر من المخ غالباً ما يكون هو مسؤولاً عن الوظائف اللغوية والكلامية، مع وجود التعاون والتنسيق مع النصف الأيمن.

وبالمقابل فإن المركز الرئيسي لوظيفة الإدراك الفراغي للمحيط هو نصف الكرة الأيمن غالباً.

وخلال الدراسة لم يتم العثور على أي دليل يؤيد فكرة (سيادة أحد نصفي المخ على الجسم)، فجميع المشاركين كانوا يستخدمون مخهم كاملاً دون أي سيادةٍ لنصف على الآخر.

يقول Jeff Anderson أحد الباحثين المشاركين في الدراسة، والبروفيسور في علم الأشعة العصبية في جامعة Utah:

"من الصحيح القول بأن بعض الوظائف تتم في جهة واحدة من المخ، فمثلاً إدراك اللغة والتعامل معها يتم في القسم الأيسر، ولكن القول بـ (سيادة نصف الكرة الأيمن) أو (سيادة نصف الكرة الأيسر) وتصنيف الشخصيات على هذا الأساس، فهو غير صحيح إطلاقاً ولم يوافق عليه علماء الأعصاب أبداً، وذلك لعدم وجود أي دراسة تؤيد هذه الفكرة. في الحقيقة سيفقد المخ كفاءته فيما لو كان لأحد جزئيه فعالية أكثر من الآخر. أما الشخصية وطريقة التفكير (تحليلياً كان أم إبداعياً) فأنه ينتج عن الاتصالات بين جميع مناطق المخ في نصفيه الأيمن والأيسر"

كما يضيف:

"من الخطأ الاعتقاد بأن نصف الكرة المخية الأيسر مرتبط بوظائف التفكير والمنطق أكثر من الأيمن، وكذلك الاعتقاد بأن الإبداع يأتي من نصف الكرة الأيمن!"

ولكن، ورغم هذه الدراسة والكثير من الدراسات الأخرى التي نقضت (علاقة الشخصية بأحد طرفي المخ)، فإن هذه الفكرة مازالت منتشرة كثيراً بين الناس، ومع انتشار الإنترنت فإنك أصبحت تجد فحوصاً لتحديد (الجزء المسيطر) ووصف شخصيتك وتصنيفك فيما إذا كنت (منطقي ذو سيادة مخ أيسر) أو (مبدع ذو سيادة مخ أيمن).

وتبدأ المشكلة عندما تمتنع مثلاً عن التقديم لطلب عمل جديد، وذلك لكونك (منطقي وذو سيطرة مخ أيسر) وهذا العمل يتطلب (إبداعاً)!! أو عندما ترى ابنتك تمتنع عن أداء واجب الرياضيات بعد أن أخبرها الاختبار أنها لن تنجح في التعامل

مع الأرقام بسبب سيطرة المخ الأيمن لديها!!

علينا جميعاً أن نعلم أن الدماغ البشري مرن بشكل كبير، ويمتلك قدرة هائلة على الاستمرار بصنع الاتصالات الجديدة بين خلاياه –حتى مع تقدم العمر- مما يسمح لنا بالاستمرار بتعلم أشياء ومهارات جديدة.

لا تسمح لخرافةٍ كهذه أن تجعلك تستخف بإمكانيات دماغك وقدراته الحقيقية، وكن على ثقةٍ بأنّ العلم هو الحل!

المصادر:

The Brain، by Christine Temple.

هنا

هنا