الفنون البصرية > فنان سوري

لؤي كيالي؛ الفنان الذي التهمته النار مرتين

*"بَغتةً يُجنّ شخص! يخرجُ عن المألوف الخانق فيفضحُ حجمَ إذعاننا وقبولِنا وتثلُّمِ أحاسيسنا. ويُظهِر لنا كم هو مرفوضٌ هذا العالَم ومقيتٌ وخانق.. وكم هو عالَمٌ غيرُ معقولٍ ولا مقبول.

هكذا جُنَّ لؤي..! جُنّ لأنّه لم يعدْ يطيقُنا.. جنّ فكشفَ أنّ حياتنا تُجنّن وتُطقّق العقل!".

1934 - 1978

هذهِ هي الفسحة التي شاءتها الأقدار ليعيشَ لؤي كيّالي بين حدّيها. وبين الوِلادة والموت ولاداتٌ متكرّرةٌ كُلّلت بالجنون، ثم الموت توهُّجًا بعد أن رقصَ رقصة النار مرّتين. في المرّة الأولى حين أشعلَ النّارَ في لوحاتِ معرضه إثر النكسة (وقيل أنه مزّقها)، وفي المرّة الثانية حين التهمَت لُفافة تبغٍ مرسمه.. وجسده.

لم تكن البدايات مرآة للنهاية، بل على العكس كانت مُشرِقةً وواعدة، يتراءى لنا لؤي كيّالي الطفلُ بسنواته العشر يرسم "سكيتش" لوجه جدّه، ليأتي الرّسم مشابهًا للملامح بصورة مدهشة، ولِتتوالى الرّسومات وسط تشجيع العائلة.

في حلب وُلد وترعرع، وقبل أن ينهيَ دراسته الثانوية أقام الشابُ اليافع أولى معارِضه في بهو الثانوية الأولى للبنين في حلب، أمّا دراسته الأكاديمية فكانت الحقوق، لينصرف لاحقًا إلى الرّسم.

يُوفَد إلى روما لدراسة الفن، ويبدأ الشاب القادم من حلب؛ البهيّ الطلعة، المتمكّن الريشة، الواسع الإبداع، بحصد الجوائز الفنّية وهو ما يزال طالبًا.

نال الجائزة الأولى في مسابقة سيسيليا (Sicilia)، والميدالية الذهبية للأجانب في مسابقة رافينّا (Ravenna)، ونال الجائزة الثانية في مسابقة ألاتري (Alatri) أيضًا.

بعد مضيّ ثلاث سنوات على إيفاده إلى إيطاليا؛ يقيم معرضه الشخصي الأول في صالة لافونتانيللا (La Fontanella) مثيرًا اهتمام الجميع! ليرتفع السؤال: "من هو لؤي كيّالي؟"

حين نبحث عن إجابة، نحن الذين ندّعي معرفة لؤي.. الفنّان والإنسان.. نتوه لاإراديًّا في دوّامة ما كُتِب وقيل ونُشِر عنه، حتى أولئك الّذين عرفوه شخصيًّا تبيّن لاحقًا أنّهم بمعظمِهم لم يدركوه! فنيًّا؛ أساؤوا الحكم عليه في مراحل معيّنة.. إنسانيًّا؛ لم يدخلوا إلى مملكة روحه كما ينبغي، فزادوا الهوّة بين عالمه الداخلي البالغ الهشاشة وبين الواقع بقسوته المفرطة.

في عام 1960؛ يقيم مع زميله "فاتح المدرس" معرض لابيناله في مدينة البندقية (La Biennale di venezia)، وفي العام نفسه؛ يُقام معرضه الفردي الثاني في صالة المعارض في روما (La galleria d'Arte del palazzo delleesposizioni).

بشهادة من أكاديمية الفنون في روما؛ يعود إلى سورية عام 1961 ليعمل مُدرِّسًا في حلب، ثمّ مدرِّسًا للرسم والزخرفة في كلية الفنون الجميلة في دمشق.

تتوالى معارضه بين دمشق وروما ويشهَد عام 1962 معرضَه الناجح الّذي أُقيم في صالة الفنّ الحديث في دمشق، بـ (28) لوحة زيتية و(30) رسمًا بيعت معظمها (بِيعَت 37 لوحة بمعدل 350 ليرة سورية للوحة الواحدة وكانت تلك أفضل وأعلى مبيعات لأي معرض فنّي سوري وقتها).. لينطلق بعدها في نجاحاتٍ متوالية إلى معارضَ أتقن فيها رسم البورتريه والكروكيه والرسم بالفحم بريشةٍ أسكنها خلاصةَ روحه.

بين الواقعية والتعبيرية التي لازمت ريشتهُ في مجملِ معارضه، ولوحاتٍ أسبغ عليها مكنوناتِ ما يعتمل في داخله؛ أصبحت شخصياته مرآة لروح مترفة الحساسية، وشبَّه بعضُ النقّاد وجوهَ لوحاته بوجوه"موديلياني"، الرّسام الإيطالي الشهير، وجوهٌ طويلةٌ مستسلمةٌ لحالةٍ لا فكاكَ منها بعيونٍ تشفُّ عن حزنٍ دفينٍ ونظراتٍ منكسرة، بأصابعٍ طويلة، وهيئةٍ نحيلة.

اعتكف لفترة طويلة في "معلولا"، ليخرج بلوحاتٍ عن بيوتِها الحجرية الصّاعدة في الجبل، وكان له اعتكافٌ آخر في جزيرة "أرواد"، ليبدع فيها لوحاتٍ تفوح منها رائحة البحر بشباكِ الصيادين المالحة وقواربِهم المتعبة.

يكاد المرء أن يتمكن من تمييز لوحات لؤي كيّالي، لا برؤيته الفنّية المتفرّدة فقط، بل بملاحظة تقنياته المُتّبعة، إذ استخدم تقنيات خاصة تشبه (الفريسك) في لوحاته القماشية، واستفاد من ملمس الخشب المعاكس الذي تركه ولوّنه بألوانٍ خفيفة، وغلّف أعمالَه بمسحةٍ خاصة تنسجم مع التقنيات التي اختارها، والتي تُذكّر بالجدران القديمة المُهترئة والتي استخدم فيها غالبًا ألوانًا خفيفة لا تكاد تخفي السطح الأساسي الذي يظهر من تحت تلك الألوان.

بدأ التحوّل في مساره الفنّي مع لوحة "ثم ماذا" عام 1964، ليتوِّج مساره الجديد في معرض "في سبيل القضية" عام 1967 بـ (30) لوحة تتكلّم عن المواطن العربي في مسيرة تحرّره.

تركت نكسة حزيران أثرًا بالغَ القسوة في نفس لؤي كيّالي، دفعتْهُ إلى إحراق لوحاتِ معرضه الأخير بأكملها، ليصاب بعدها بأزمةٍ نفسيةٍ حادة دخل على إثرها المستشفى.

تتوالى النكبات على لؤي برحيل والده عام 1970 لتتراجع حالته الصحية من جديد، ويصدر قرار تسريحه من العمل في كلية الفنون الجميلة بطلبٍ منه نتيجةً لوضعه الصّحي.

وفي محاولةٍ صادقةٍ للمشي بخُطًا متّزنة من جديد، وفي ظلّ خليطٍ من الجنون والعافية، ينهض لؤي كيالي وقد أرهقه التعب عام 1973، ليجعل من هذه السنة إحدى أكثر سنواته الفنية إنتاجًا وغزارة.

سبعُ سنواتٍ من الانقطاع ينهض بعدها لؤي لممارسة جنونه اللَّوني الخاص على بياضِ القماش ليستمر حتى عام 1976 بإقامة معارض في دمشق وحلب وبيروت وكندا، (في معرض حلب، بيعت جميع اللوحات الـ 45 قبل افتتاح المعرض!). ولم تجعله النجاحات المتوالية قادرًا على التواؤم مع عالم "اللامعقول" فانصرف إلى رسم عوالم ساكنة هادئة.. زهور، صيادين، قوارب، باعة متجولين.. شخوصٌ لم تعد قوية كما كانت في لوحاته الأولى، بل مجرد وجوه مستكينة ومستسلمة وبائسة..

قد يبدو للبعض أنَّ الحياةَ أعطت لؤي كيّالي بسخاء، فنانٌ جميلٌ بأنامل سحرية وموهبة جلبت له الشهرة، والتّرف والمجد، لكنّها في الوقت نفسه أعطته روحًا كآنية الكريستال المصدوعة.. لاشيء ينفع معها، لاشيء يرمّمها.

اضطرمت عوالمه الداخلية فأودت به إلى النهاية.. في ليلة العاشر من أيلول (سبتمبر) عام 1978، في مرسمه الواقع في حلب؛ تسقطُ لفافة التبغ لتضع حدًّا لحرائقِ لؤي الداخلية، وليُنقل بعدها إلى مستشفى جامعة حلب فالمشفى العسكري في حرستا بدمشق، ففارق الحياة في 26 كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته.

يحلو للبعض تبادل النظريات والآراء حول موت لؤي كيّالي. البعضُ "يتحمّس" لترجيح فكرة انتحاره، ففي ذلك توليدٌ لإثارة يطلبونها لتُضاف إلى سيرة حياته غير الاعتيادية، وآخرون يصرّون على أنّ موته جاء حادثًا عرضيًّا..

لكن أيّاً تكن حقيقة النهاية؛ فـ "لؤي" قد رحل...

ولعلّ ما يترك لنا العزاء هو حضوره الخاص في لوحاته الموزّعة في بيوت لم يعرفها ولم يعرف أصحابها، وبَصمتِه المتوهّجة في ذاكرة الفن السوريّ وفي أرواح من أحبّوه.

لِذكرى لــؤيّ كيّــالي...المجنونِ الأرجَحِ عقلاً بيننا..

المصادر:

• * المقدّمة مأخوذة من مقدمة كتاب "عن الفنان لؤي كيّالي"، لصلاح الدين محمد ، عن دار ابن رشد .

• دفاعاً عن الجنون، ممدوح عدوان، عن دار ممدوح عدوان للنشر. الطبعة الثانية 2012

• رواية اسمها سوريّا، نبيل صالح، الجزء الثالث، الطبعة الثانية 2007، "تراجيديا فنّان، موقع لؤي كيّالي .

• مقال بعنوان:" لؤي كيّالي، موته إحدى لوحاته "بتاريخ 31-5-2013 لـ عصام درويش .