الموسيقا > عظماء الموسيقا

موزارت ... معجزة الموسيقا والزمان

ربما يكون أكثر الموسيقيين إعجازًا الذين عاشوا على هذه الأرض؛ فريد في التاريخ الموسيقي لإنجازاته في كل أنواع الموسيقا الكلاسيكية وأشكالها ولامتلاكه مهارة تأليفية مذهلة، فحين تسمع لموزارت تسمع ذلك الطفل الذي يقدم موسيقا لا تفسير لها لكنَّها أصداء تعلن علَمًا جديدًا للموسيقا، ذلك الرجل الذي يقدم روحه مع كل قطعة يؤلفها؛ إنَّه ذلك العجوز الذي يصرخ بقطعٍ موسيقية حرمنا منها الزمان بغدره، فقد عاش 35 عامًا فقط (1756- 1791).

كان أول من حاول تأسيس مهنة موسيقية مستقلة لنفسه؛ عاش أقل من أربعة عقود قدم فيها للبشرية ما يغنيها عن الموسيقا مئات السنين، وحتى بعد مماته بأكثر من مئتي عام بقيت أجيالٌ تتساءل ماذا كان بإمكانه أن يقدم لوعاش بضع سنين أخرى؟

حياته:

ولد يوهانس كريسوستوموس فولفغانغوس ثيوفيلوس موزارت في 27 كانون الثاني من عام 1756 في مدينة سالزبورغ لـ(ليوبولد موتسارت وآنا ماريا) -كان الأصغر من بين 7 أخوة؛ الذين تُوفِّي 5 منهم في طفولتهم- وكان والده مؤلِفًا وأستاذًا ذا خبرة، وقد قالت أخته ماريا آنا عن طفولته: "كان يقضي معظم وقته على آلة الكلافير، ينتقي الثلاثيات التي كان مبدعًا بها" وقد ظهرت سعادته لأن مسمعها كان جيدًا...

في الرابعة من عمره بدء والده بنوعٍ من اللعب بتعليمه بضعة "مينويتات" وقطع على الكلافير، فكان يعزف من دون أي خطأ وبأكبر قدر من الدقة وبالتزام تام بالإيقاع الموسيقي، وفي عمر الخامسة كان قد بدأ تأليف قطع بسيطة، فكان يعزفها لوالده الذي كان يدوِّنها.

كان والده أستاذًا مخلصا لأولاده، وعلى الرغم من ذلك لم يقف موزارت عند ما علمه إيّاه والده بل تجاوزه، إذ إنَّ محاولاته على آلة الكمان وأول قطعة دوَّنها على الورق كانت مبادرة منه ومفاجأة لوالده، وعندما بدأت مواهب موزارت بالظهور ترك ليوبولد التأليف ليتفرغ لابنه، ففي عام 1762 قرر والده أخذ عائلته في رحلة أوروبية لمنح ولديه موزارت و ماريا آنا فرصة للتألق، حيث بدأت جولتهم في ميونخ وبعدها إلى أبرز المدن في أوربا منهم: فيينا وبراغ وباريس ومانهايم ولندن ولاهاي وزيوريخ، لكن كانت المحطة الأهم الني أسهمت كثيرًا في صنع مستقبل موزارت روما في إيطاليا، وكان عمره 12 عامًا حين سمع مقطوعة "رحماك يارب Miserere" للمؤلف جورجيو أليغري (مدتها قرابة ربع ساعة)، وكانت هذه المقطوعة مقدسة إذ مُنع موسيقيو الكنيسة من إخراج أصغر جزء منه أو نسخه أو تسريبه إلى أي كائن كان تحت طائلة الحُرم، وكانت عبقرية موزارت لا تعرف هذه القيود فأعاد كتابتها بأدق تفاصيلها من ذاكرته بعد عودته إلى الفندق مع والده بعد سماعها مرتين فقط!! وعند مقارنة ما كتبه موزارت باللحن الأصلي شعر الجميع بالصدمة من شدة دقة التدوين وكان الفارق الوحيد هو أن موزارت قد كتبها بأسلوب تدوينٍ أحدث من الأسلوب القديم الذي كتبت به النوتة الأصلية.

وكانت روما وبحبها للأوبرا –على عكس سالزبورغ- مصدر إلهام (مستقبلًا) لأهم أعماله الدرامية مثل: زواج فيغارو، والناي السحرية، ودون جيوفاني، وكوسي فان توتيّ، والتقى في رحلته مع عدة مؤلفين؛ كان أبرزهم يوهان كريستيان باخ (الابن الحادي عشر ليوهان سباستيان باخ) الذي تعرَّف إلى أهم أعماله في لندن.

لم تكن رحلاته سهلة عليه وعلى عائلته، فالحصول على دعوات من الطبقة النبيلة للتأدية كانت صعبة، ومشقات الطريق أخذت ثقلها على عاتقهم، إذ تعرضوا لأمراض كادت أن تقضي عليهم في عدة مناسبات، وبعد عودته هو ووالده من إيطاليا بعد رحلة متقطعة استمرت قرابة الخمس سنوات، عُين موزارت موسيقي البلاط في سالزبورغ من قبل أمير سالزبورغ وسنحت له الفرصة هناك بالعمل بأنماط موسيقية عديدة مثل السيمفوني والسوناتا والرباعيات الوترية والسيريناد والموسيقا الكورالية، وفي هذه الفترة ألَّف سلسلة مكونة من 5 أعمال كونشيرتو للكمان -كانت الوحيدة التي وضعها للكمان- وفي عام 1776 حوَّل جهوده لتأليف كونشيرتو للبيانو فوضع البيانو كونشيرتو رقم 9 التي عدَّها الكثير من النقاد انطلاقته الحقيقية.

على الرغم من هذه النجاحات الفنية لم يكن موزارت يشعر بالرضى عن العمل في سالزبورغ وحاول جاهدًا العثور على مكان آخر للعمل، وقد تاق لتأليف الأوبرا، إذ لم تسنح الفرصة في سالزبورغ لتأليف هذا النوع إلّا في مناسبات نادرة؛ كل هذا دفع موزارت إلى تقديم استقالته عام 1777.

عاد موزارت مجددًا للبحث عن عمل، فوصل إلى مانهايم في ألمانيا والتقى مع أعضاء الأوركسترا هناك -الأفضل في أوربا في تلك الفترة- وفي هذه المدينة أغرم ب "أيلويسيا فيبر"، لكن علاقتهما لم يكتب لها النجاح وتزوج فيما بعد أختها "كونستانزا"، وبعد فشل توظيفه في مانهايم توجه إلى باريس عام 1778 حيث عُرض عليه أن يكون عازف أورغن في فيرساي لكنه لم يُبدِ أي اهتمام للمنصب، فوقع في مأزق الديون و بلغت زيارته إلى باريس الدرك الأسفل عند وفاة والدته وغادر المدينة في العام نفسه ليعود إلى سالزبورغ، توجه بعدها إلى فيينا في عام 1781، وبعد خلافات كبيرة مع موظفه الأمير كوليريدو ووالده الذي وقف في وجه ابنه؛ تحرر موزارت من العقد الذي يربطه مع موظفِه و قد عدَّت هذه الخطوة مفصلية في نجاحاته في المستقبل، وقد فرض نفسه كونه أفضل عازف بيانو في فيينا وأبدع في التأليف، ففي عام 1782 أكمل أوبرا "الاختطاف من السراي" التي حققت نجاحًا باهرًا وأُديت في معظم مدن أوربا والتي أسست سمعة موزارت كونه مؤلف.

بين عامي 1782 و1783 ألف موزارت نفسه مع أعمال باخ وهاندل الذين كانا لهما الأثر في أعمال موزارت "الباروكية" (نهاية السيمفونية 41 مثلًا)، والتقى موزارت عام 1784 مع جوزيف هايدن في فيينا وقد كرس المؤلفين أعمال لبعضهما (كرس موزارت 6 رباعيات لهايدن)، وتعد شهادة هايدن بعبقرية موزارت من أهم الأقوال المأثورة في الموسيقا "موزارت هو أعظم مؤلف موسيقي يعرفه العالم في وقتنا الحاضر".

شهدت الأعوام 1782 و1785 نجاحًا رائعًا لموزارت وعاش مع عائلته بترف كبير ولكن أسلوب العيش هذا منعه من التوفير؛ الأمر الذي دفع ثمنه لاحقًا...

شهد عاما 1786 و1787 نجاحات موزارت في التأليف الأوبرالي، فقد انضم "لورينتزو دا بونتي" إلى جانب موزارت و تشاركا في التأليف، وشهد عام 1786 النجاح الأسطوري لأوبرا "زواج فيغارو" في كل من فيينا وبراغ وأوبرا "دون جيوفاني" عام 1787؛ وكان هذان العملان من أهم أعمال موزارت على الرغم من تعقيدهما الموسيقي الذي يسبب صعوبات على كل من المستمعين والمؤدين على حد سواء، وفي عام 1787 قضى لودفيغ فان بيتهوفن الشاب بضعة أسابيع في فيينا أملا في الدراسة مع موزارت و لكن لا يوجد أي مصدر موثوق يشير إلى حقيقة لقاء المؤلفين.

راجع مقالنا هنا

و مع اقتراب نهاية العقد ساءت أحوال موزارت، فقلَّ ظهوره للعامة كثيرًا ونقص مدخوله وقد كانت هذه الفترة صعبة على الموسيقا والفن عمومًا بسبب نشوب الحرب التركية النمساوية ونقص دعم الطبقة الأرستقراطية للموسيقا، وبحلول منتصف عام 1788 غرق موزارت في مأزق مالي وبدأ يستدين من أصدقائه ووقع في اكتئاب عميق وتراجع معدل تأليفه، وكانت أهم أعماله في هذه الفترة: السيمفونيات الثلاثة الأخيرة 39 و40 و41، وهناك جدل كبير عن هذه السيمفونيات؛ إذ يُعتقد أنها لم تعزف في فترة حياة موزارت ويقول بعض الناس أنَّها قد عُزفت في حياته وأن سالييري قد قاد الأوركيسترا للسيمفونية الـ40 في سلم صول مينور، والأوبرا الأخيرة الناتجة عن مشاركته مع دا بونتي "كلهن هكذا" التي عرضت عام 1790.

1791 عام موزارت الأخير؛ الذي كان عام شفاء له فقد أدهش العالم بعودة أكثر من رائعة وكانت من أكثر السنوات إنتاجًا له، فقد شهد هذا العام تأليف أكثر أعمال موزارت تقديرًا و إعجابًا مثل أوبرا "الناي السحري" التي كانت باللغة الألمانية صدمة للوسط الموسيقي حينها إذ كانوا يعدون اللغة الألمانية غير مناسبة للغناء الموسيقي، وكونشيرتو البيانو الأخير، كونشيرتو الكلارينت، وآخر عمل من سلسلة الخماسيات الوترية، والقداس الجنائزي (ريكويم) غير المكتملة.

ويجدر بنا الوقوف لحظة عند القداس الجنائزي هذا؛ ففي شهر تموز قرع رسول مقنع ذو شكل مخيف باب موزارت حاملًا معه عرضًا مغريًا بأن يؤلِّف موزارت قداسًا جنائزيًّا بشرط ألا يذكر اسمه عليه، وعدم السؤال عن اسم المستفيد من القداس، وقد عُرف الرسول لاحقًا؛ وهو عازف التشيلو أنطون فون لا يتجب ابن محافظ فيينا، والمستفيد من القداس هو الكونت فرانز فون فالزيغ الذي فقد زوجته في شباط 1791 وأراد أن يقدم قداسًا جنائزيًّا لوفاتها وادعاء تأليف هذا القداس.

مَرضُ موزارت الشديد جعله يشعر أنَّه يكتب هذا القداس لوفاته هو، وتظهر السوداوية واضحة في هذا القداس، وقد منعه مرضه الشديد من القدرة على الكتابة فكان يتلو على تلميذه سوسماير المقطع تلو الآخر، وتوفي دون أن يكمل هذا القداس وقد أكمله سوسماير حسب تعليمات موزارت، وعندما وقف الكونت فالزيغ في قيادة الأوركيسترا ليدعي تأليف القداس لزوجته، كان الحضور يتهامسون "إنَّ هذه الموسيقا لموزارت دون شك"

يجدر التذكير بأنَّ سالييري بريء تمامًا من موت موزارت وأنه لا علاقة له من قريب أو من بعيد بأحداث القداس الجنائزي، وقد وقع ضحية بوشكين وريمسكي كورساكوف في اتهامه بدس السم لموزارت وذهب المسرحي شافر لاحقًا إلى اتهامه بأنَّه الرسول المقنع واستثمر هذا الاتهام المخرج فورمان في فلمه أماديوس.

لمعرفة المزيد عن سالييري هنا

مرض موزارت حين كان في براغ في 6 من أيلول عام 1791 لكنه أكمل مشواره حتى إنَّه قاد افتتاح أوبرا "الناي السحرية في 30 أيلول من العام ذاته، وفي غضون 50 يومًا تدهورت صحته كثيرًا فعانى من ألم وتورم واقياءات، وفارق الحياة في 5 من كانون الأول عام 1791 في الساعة الواحدة صباحًا.

كان يوم دفن موزارت عاصفًا، واختبرت العاصفة حب العدد الهزيل للمشيعين الذين تفرقوا عن جثمانه ليدخل مقبرة القديس مارك وحيدًا ويلقى جثمان أعظم موسيقي في زمنه ولا أبالغ إذا قلت في التاريخ في حفرة جماعية إلى جانب جثث المتسولين والبؤساء والمنسيين، وبعد يومين من وفاته لم يحضر جنازته أحد إلا 5 موسيقيين منهم سالييري وتلميذه سوسماير.

ولا تزال الأيام الأخيرة لموزارت والطريقة المخجلة في دفنه أكثر حدث مخجل ومهين في تاريخ الموسيقا، ولا تعكس الجنازة المتواضعة لموزارت موقف الجمهور منه، إذ إنَّ حفلات التأبين كانت مكتملة الحضور في كل من فيينا وبراغ، وفي الفترة التي تلت وفاته مباشرة ازدادت شعبيته كثيرًا وغرق العالم في موجة كبيرة من الحماس لأعماله، فكُتبت سيرته الذاتية ووثقت أعماله من قبل العديد من المؤلفين.

موسيقاه:

كان موزارت رمزًا للعصر الكلاسيكي، فعندما بدأ بالتأليف كان يسيطر على أوربا الأسلوب الغالنتي (عودة الموسيقى الكلاسيكية إلى مستويات أبسط من عصر الباروك) ردة فعل على تعقيد الباروك، تدريجيًّا وعلى يد موزارت نفسه ظهرت تعقيدات الباروك مجددًا معدلة بأشكال جديدة ومتكيفة مع محيط اجتماعي جديد، فكان موزارت ملحنًا متنوعًا فكتب في كل أنواع الموسيقا من أوبرا وكونشيرتو وسيمفوني وموسيقا الحجرة متضمنًا الرباعيات الوترية والخماسيات الوترية وكذلك سوناتات البيانو، ولم تكن هذه الأساليب جديدة لكن موزارت طور التعقيد التقني والتناول العاطفي لها، وطور بمفرده تقريبًا شهرة كونشيرتو البيانو التقليدي، وكتب الكثير من الموسيقا الدينية أيضًا، الصفات الأساسية للنمط الكلاسيكي كلها موجودة في موسيقى موزارت؛ الوضوح والتوازن والشفافية هي السمة المميزة لكل أعماله ولكن تبقى الرقة مصدر القوة الاستثنائية لأروع روائعه؛ البيانو كونشيرتو 24 والسيمفونية 40 وأوبرا دون جيوفاني.

أثر سفر موزارت كثيرًا في أسلوبه، فمن كل مكان سافر إليه اقتبس منه شيئًا جديدًا، ففي لندن وباريس ومانهايم التقى مع العديد من المؤلفين والمؤدين، وكان لإيطاليا التأثير الأكبر عليه خاصة في التأليف الأوبرالي.

تأثيره:

الشهرة التي عصفت بموزارت بعد وفاته أدت إلى جعل دراسة مقطوعاته ركيزة في الموسيقا الكلاسيكية، وقد تأثر بيتهوفن الذي يصغر موزارت بخمسة عشر عام بأعماله، وبعض من مؤلفاته لها صلة مباشرة بأعمال موزارت، فكتب كادينزا معتمدًا على البيانو كونشيرتو ري مينور لموزارت، كذلك كل من شوبان وتشايكوفسكي وميكائيل غلينكا كرسوا أعمالًا لموزارت.

رحل موزارت و ترك وراءه إرثًا موسيقيًّا واسعًا و متنوعًا، و ماتزال أعماله حتى اليوم تملأ قاعات أوربا والعالم، على الرغم من امتداد الزمن وعظمة المؤلفين الذين أتوا بعد وفاته مايزال موزارت يحتل مرتبته الخاصة في التاريخ الموسيقي.

وقد اكتُشف أثر موسيقا موزارت في علاج الصرع، راجعوا مقالنا هنا

وهنا يمكنكم مشاهدة موضوعنا عن السلم المفضل لموزارت هنا

أنموذج من أهم أعماله العبقرية:

Eine Kleine Nachtmusik:

الريكويم (القداس الجنائزي) بقيادة هربرت فون كارايان

السيمفونية الـ40 في سلم صول مينور بقيادة ليونارد بيرنشتاين

السيمفونية 41 في سلم دو ماجور بقيادة لورين ماتزيل الذي توفي في 13 تموز 2014

أوبرا الناي السحري

سوناتا البيانو رقم 8 في سلم لا مينور بأداء المايسترو دانييل بارينبويم

أوبرا دون جيوفاني

كونشيرتو الكلارينيت

كونشيرتو البيانو رقم 24 في سلم دو مينور

المصادر:

مجلة الحياة الموسيقية الصادرة عن وزارة الثقافة السورية- العدد 41- عام 2006- ملف العدد : موتسارت

موتسارت- تأليف محمد حنانا- وزارة الثقافة السورية- 2012

هنا

هنا