الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

أسطورة الطوفان البابلي

تعود أقدم رواية سامية عن الطوفان إلى عهد الدولة البابلية القديمة، مُتمثلةً بنص نيبور. حيث تم العثور على لوح آجري في خرائب مدينة نيبور، وهو في حالة كبيرة من التلف، لكن على الرغم من الحالة الرديئة التي وجد عليها هذا اللوح، يمكننا استنباط فكرة واضحة عن مضمونه. ويمكن تلخيصها بأنّ هناك طوفاناً قادماً، وإله يصطفي أحد البشر لينقذ الحياة، ويأمره ببناء سفينة. ومما لا شكّ فيه أنّ هذا النصي يشكل النواة التي سيُبنى عليها فيما بعد نص طوفان جلجامش الذي سنستعرضه بسفر الطوفان الآشوري.

إلى جانب نص نيبور، ملحمة بابلية أخرى، ملحمة أتراحيسس. وجدت هذه الملحمة موزعة على عدة كسرات ألواح، لكن يمكن متابعتها دونما إشكال أو إبهام.

تُستهل هذه الملحمة بوصف الأرق الذي أصاب الآلهة وعلى رأسهم (إنليل) نتيجة الازدياد الكبير في عدد البشر. فيشرع (إنليل) إلى مجمع الآلهة بإرسال الاوبئة والطاعون.

"لقد عمرت الأرض وتكاثر الناس

وتزايدوا حتى أزعجوا الإله إنليل بتجمعاتهم

لقد وصل ضجيجهم إليه في عليائه

فعقد إنليل اجتماعاً

وقال للآلهة أبنائه:

عظيمة باتت ضوضاء البشر

وبسببها أنا منزعج

وبسببها لا يطرأ الكرى جفوني

فليكن هناك طاعون

وبلحظة خاطفة فلتضع الأوبئة حداً لضجيجهم"


وسرعان ما يندلع الطاعون بين البشر، وينتشر الموت والمرض، لكن الملك الحكيم (أتراحيسس) يتضرّع للإله (ايا) طالباً المساعدة، فينصحه (ايا) بأن يحثّ الناس على الشروع بالصلاة وتقديم القرابين والتضحيات لإله الطاعون (نامتار)، نتيجة لهذا التمجيد يشعر (نامتار) بالحرج، فيضع حداً لانتشار الطاعون.

"وبلحظة خاطفة وضعت الأوبئة حداً لضجيجهم

علل وأمراض وأوبئة وحمى

ولكن اتراحيسس توجه بقلبه إلى سيده ايا

وتكلم مع إلهه

يا إلهي ان البشر يئنون

وقد طغى على الارض غضب الآلهة"

بعد ذلك بألفٍ ومئتي عام، تتضاعف أعداد البشر من جديد، بالقدر الذي يسبب لـ (إنليل) عدم القدرة على النوم، فيقرر هذه المرة تجويع البشر، في سبيل تقليل اعدادهم. ويأمر (حدد) ليمسك الأمطار عن البشر، و(نيسابا) إلهة القمح والحبوب لتحرمهم من الطعام.

"فلتقع الأشجار التي تطعمهم

ولتعوِ بطونهم طلباً للطعام

وليمنع حدد في الأعالي مطره عنهم

ولتحجب نيسابا صدرها الخصب"

من جديد، يُناشد (أتراحيسس) إلهه (ايا). ومرة أخرى، ينصحه (ايا) بأن يركز صلواته تجاه إله واحد، وهذه المرة هو (حدد) إله المطر والصواعق والسحاب والرعد وكل مظاهر الخصب. (حدد) بدوره يشعر بالحرج، وينشر الأمطار لتعود مظاهر الحياة.


ألفٌ ومئتا عام آخر، ها هي ذا ضجة البشر تُصبح هائلة مجدداً، لكن هذه المرة (انليل) يريد التأكد أنّه ما من إله ستضعُف عزيمته ويشعر بالحرج أمام قرابين البشر. فيصدر قراراً عام بمنع هبات الطبيعة، وقرار بجعل النساء عاقرات، إضافةً إلى التجويع والأوبئة.

"ولتغلق الأرحام فلا حبل ولا ولادة

وعندما حلت السنة الثانية اُستنزفِت المؤن

وعندما حلت السنة الثالثة تغير الناس جرّاء المجاعة

وعندما حلت السنة الرابعة

من كان ظهره منهم منتصباً انحنى

وعندما حلت السنة الخامسة طرقت البنت باب أمها

لكن الأم لم تفتح لابنتها بابها

وعندما حلت السنة السادسة أُعدت الابنة لتكون طعاما

وراح البيت يفترس الآخر

وصارت وجوه الناس كأشباح موتى"

يطرأ بعد ذلك تشوّه على اللوح، يبدو فيه أنّ (ايا) ينقض العهد الذي وافق عليه مجمع الآلهة، والقاضي بتجويع البشر. ذلك من خلال إرسال كميات مهولة من السمك لإطعام الناس الذين يتضورون جوعاً. يترتب على ذلك غضب (انليل) الكبير نتيجة لنقض العهد المتفق عليه، وذهاب (ايا) ضد الخطة الموضوعة لإفناء الجنس البشري. فيتخذ (انليل) قرارين ينُصان على أن يقوم (ايا) بإهلاك البشرية من خلال طوفان، وأنه سيضطر أن يُقسم ألّا يتدخل مجدداً في مساعدة الناس للنجاة من الدمار. فيما يلي ذلك نرى ممانعة من (ايا) لهذه القرارات. لكن يبدو بأنه أُجبر على أداء القسم. يشوب التشوه الجزء الذي يليه، وما أن يُصبح مقروءًا نجد (ايا) وهو يحذر (أتراحيسس) من الطوفان، لكنه في الواقع لم يكن يتكلم مع (أتراحيسس) بشكل مباشر، وإنما من خلال حائط في كوخ (أتراحيسس) المصنوع من القصب، وذلك حتى لا يحنث باليمين الذي أقسمه أمام (انليل).


"حسناً فلتُصغِ إلي

اسمع يا جدار

وتأمل كلماتي يا كوخ القصب

قوض بيتك وابنِ سفينة

اهجر ممتلكتك

وخلص حياتك"

يبدأ (أتراحيسس) بجمع شيوخ شروباك ويُخبرهم بالخلاف الدائر بين (انليل) و(ايا)، ويُطلعهم على ما طلبه منه (ايا) في سبيل النجاة من الطوفان.

"ادخل الفلك وأغلق عليك بابك

أحمل إليها الحبوب والمتاع والمواشي

زوجك وأقرباءك وأصحاب الحرف

طرائد البرية ووحوشها، وما استطعت من آكلة العشب"

وما يلبث الطوفان أن يبدأ، حتى نجد أن الآلهة نفسها بدأت تخشى أهوال هذا الطوفان العظيم. ها هي الأم العظيمة تبكي مصير البشر، وتبدأ الآلهة بالجوع. وبعد سبعة أيام وسبع ليالي ينحسر الطوفان، ينزل (أتراحيسس) اليابسة ويقدم قرباناً للآلهة الجائعة. لكن (انليل) يغضب لنجاة السفينة، وهو على دراية بأنّ (ايا) هو الوحيد الذكي بما فيه الكفاية لإيجاد هذه الحيلة، فنجد (ايا) يعترف بمساعدته غير المباشرة للبشرية، ويبدو أنه تمكن من إقناع (انليل) اعتماد خطة أكثر إنسانية للتعامل مع السكان ومشكلة الضوضاء.


الطوفان وجلجامش

تنطوي أسطورة الطوفان البابلية على اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش، هذه الأيقونة الدبية والتحفة الفنية، وهي عبارة عن مجموعة من النصوص السومرية، التي تتحدث (جلجامش) الملك الأسطوري لأوروك ورحلته في البحث عن الخلود وتُعد أطول المؤلفات باللغة الأكادية لغة بلاد بابل وآشور، وكما أوردنا أن اللوح الحادي عشر من الملحمة يشكل نواة سفر الطوفان. يُستهل اللوح بوصف اللقاء الذي يجمع بين جلجامش واوتنابشتيم، الانسان الذي كان المُخلّص من الطوفان، فيسأله جلجامش عن سر الخلود، وكيف ناله.

"انظر اليك يا اوتنابشتيم

انا مثلك وانت مثلي

قُل لي كيف نُلت الخلود

لقد صورتك كبطل، كإله على أهبة القتال"

فيقص اوتنابشتيم عليه روايته، فها هو (ايا) ومن خلال كوخٍ من القصب، يحذره من خطة الآلهة بإحلال طوفان عظيم.

اصغِ يا كوخ القصب، وتفكر يا جدار

اهجر ممتلكاتك وانج بنفسك

اترك متاعك وانقذ حياتك

اعمل على حمل بذرة كل ذي حياة"

تصوّر بعد ذلك الآلية التي بدأ بها (حدد) هذه الأعاصير والعواصف العاتية. حتى أنّ الآلهة ذعروا من هول الطوفان، وهربوا صاعدين إلى السماء. ودام الفيضان ستة أيام، وراح ضحيته بقية أفراد الجنس البشري، عدا (اوتنابشتيم) ومن معه. تحط السفينة بعد ذلك على جبل (نصير)، من هناك يرسل حمامة للبحث عن يابسة، لكنها لا تلبث أن تعود إليه، يعيد الكرة مع سنونو ولكنه أيضاً يعود دون أن يجد يابسة. وفي المرة الثالثة يطلق غراب يطير في السماء دون أن يعود. يستدل (اوتنابشتيم) بذلك أنه وجد يابسة وأن المياه قد انحسرت. ويكافئه (انليل) بالخلود هو وزوجه.

"ما كنت يا اوتنابشتيم إلا بشراً فانياً

ولكنك وزوجك منذ الآن ستغدوان مثلنا خالدين"

باقي مقالات الطوفان:

الطوفان السومري: هنا

الطوفان الكلداني: هنا

مصدر الصورة: هنا

المراجع:

Dalley، Stephanie. Myths From Mesopotamia، Oxford University Press، Oxford، 1989.

Sandars، N. K. (transl.). The Epic of Gilgamesh، Penguin Books، Ltd.، Harmondsworth، England، 1972.

مغامرة العقل الأولى، دراسة في أسطورة سورية وبلاد الرافدين، فراس السواح، طبعة 1987.

دراسات في حضارة المشرق العربي القديم، بشار خليف، مركز الإنماء الحضاري. 2004.

هنا

هنا