التاريخ وعلم الآثار > منارات ثقافية

في قاهرة المعز كانت دار العلم، منارة للإنسانية

في الجزء الأول لمقالنا تكلّمنا عن مكتبة دار العلم في القاهرة، اليوم نستكمل الحديث عنها، وبشكل خاص عن تنظيم المكتبة وصكّ الوقفية .

ونعجب مِما رأيناه خلال بحثنا، بعد أن تبين أنّ صكّ الوقف كان في غايةِ الدّقة والتفصيل يدلُّ على مدى التقدم في النظام المالي والمحاسبي في ذلك العهد

وإليك ما قد "يدهشك" من تفصيل في الأجور:

خُصّص لدار العلم 9/80 من الريع العام المخصّص للمنشآت الوقفية وبلغت قيمة ذلك الريع 257 دينار عربي، موزّع على الشكل التالي:

دينار

10 لشراء الحُصر

90 لشراء لوازم الورَق وللنسخ

48 لراتب الخازن

12 لماء الشرب

15 الفرّاش

12 لشراء الورق والحبر والأقلام لمن يطالع فيها

1 لإصلاح الستائر

12 للتجليد

5 لشراء سجّاد للشتاء

4 لشرء أغطية للشتاء

209 دينار

ويتبقى من قيمة المبلغ المخصّص 48 دينار تُترك للمصاريف غير المتوقعة كإحتياط بيد القائم على المكتبة بحيث تترك لتقديره توزيعها، أما رواتب بقية الموظفين والباحثين فبقيت تومن من ميزانية الخليفة الخاصة (ص116-117 بتصرف، 5)

وبقي الاهتمام واضحا بالمفروشات وخصوصا بالسجاد والستائر فكانت تحفة تسر كل من يزورها ويدخلها (ص118، 5)

وفي مجال النسخ المتكررة والتي تعتبر في عالم اليوم أمرا يميز المكتبة الناجحة التي تسعى إلى توفير أكثر من نسخة من الكتب القيمة من أجل القراء الكثر الذين يقدمون على قراءة مرجع ما وفي نفس الوقت من أجل مبادلته مع مراجع أخرى، كان هذا الشيء متوفرا في مكتبة دار العلم، فيذكر أنه كان فيها 1200 نسخة من تاريخ الطبري، كما وجد فيها 30 نسخة من كتاب العين للفراهيدي منها نسخة بخط الفراهيدي نفسه، و100 نسخة من كتاب الجمهرة لإبن دريد (ص207، 2)

ومن أشهر الخطاطين العاملين في مجال النسخ والكتابة ابن مقلة وعلي بن هلال المعروف، بابن البواب والذان كانا يستخدما الخط المنسوب والذي كان هو الآخر الخط الأساسي في المكتبة (ص207، 2)

وكانت المكتبة مصنفة ومرتبة بشكل يسهل على القارئ الوصول إلى أي كتاب يريده (ص106، 9)

بداية النهاية:

توفي الخليفة الحاكم بأمر الله وبوفاته عادت الخلافات الطائفية للصورة وهذه المرة ضمن المكتبة، فأصحبت تلك المناظرات التي كانت سمة مميزة عن حجم الثقافة سبباً رئيسياً في تضخم حجم الخلافات الطائفية وتبادل السباب، وبدأت تأخذ منحى دامي.

توقفت معلوماتنا عن تطور المكتبة في هذه المرحلة، فكل المؤرخين مشغولون بالصراع، ليتم إغلاق المكتبة أكثر من مرة،ليحاول بعدها الكثير من العلماء اعادة افتتاح المكتبة، وفي كل مرة كانت المحاولات تبوء بالفشل بسبب احتدام المشاكل الطائفية، ونذكر منهم محمد بن آدم في كانون الثاني 1117م وفي أيار 1123م الوزير المأمون نقل المحتويات إلى دار آخر وحاول الافتتاح وعين رجلاً عاقلاً مشهوراً بين الناس بالحلم ورجاحة العقل واستعان بخبرة محمد بن آدم وفشل أيضا إذ ما لبث أن عادت الخلافات من جديد وبقيت سجالاً بين إغلاق وافتتاح إلى أن دخل صلاح الدين الأيوبي مصر وأنهى وجود الفاطميين سنة 1171م (ص119-126، بتصرف)

النهاية الغامضة:

وصلنا إلى نفس المكان المظلم الذي نصل إليه عند كل مرة نتحدث فيها عن مكتبة من مكتبات الحضارة الإسلامية، إنها نهاية المكتبة، ولكن في هذه المرة سنترككم غير أكيدين – مثلنا تماما – عن النهاية الحقيقية لهذه المكتبة، سنستعرض معكم مجموعة من الروايات التي أوردها المؤلفون في هذا المجال عن نهاية المكتبة:

نأتي أولا إلى الدكتور محمد ماهر حمادة: "يظهرأن مصير هذه الأكاديمية – أي دار العلم الفاطيمية – ارتبط مع مصير الدولة الفاطمية، ... فقد صادرها جميعها صلاح الدين الأيوبي وباعها بالمزاد العلني" (ص106، 9)

في حين تورد الدكتورة الجواهري نهاية مختلفة: "بقيت هذه الدار تقوم بعملها العلمي حتى سنة 1068م حيث سلبت وسرقت من قبل الجنود الأتراك الذين فرقوها وحملوها إلى الاسكندرية وعند ارسالها إلى هناك سرقت من قبل مجموعة من الجهلة، فصنعوا من جلودها أحذية لهم" (ص128، 2)

ويورد الدكتور الصوفي نهاية مختلفة عن سابقيه، "وقد ضاعت مجموعات كبيرة من كتبها أثناء الفتنة التي حدثت في مصر، عام 1068م حين وقع الخلاف بين الجنود السودانيين والأتراك وكان عام قحط حصد الطاعون فيه الناس، فأغار الضباط الأتراك على المكتبة وأتلفوا كتبها واتخذ عبيدهم من جلودها نعالا وأحذية لهم وأحرقوا أوراقها. وعندما دخل صلاح الدين الأيوبي القاهرة بعد قرن تقريبا من هذه المأساة وجد بقايا المكتبة في القصر الملكي وفيها ما يقارب 100،000 كتاب وزع بعضها على رجاله وباع الآخر على يد خبير الكتب يدعى ابن صورة على مدى عدة سنين، أما ما بقي منها إلى عهد المماليك فقد باعه الطلبة أثناء المجاعة، التي اجتاحت الديار المصرية، نتيجة القحط والأوبئة ما بين عامي 1348 – 1349م كل مجلد برغيف" (ص209، 2)

وأضاف الدكتور عبد الستار الحلوجي وصف آخر عن نهاية المكتبة أكثر هدوء من السابقات: "أما مكتبة الفواطم فقد دالت هي الأخرى مع دوال دولتهم بموت العاضد آخر خلفائهم، واستيلاء صلاح الدين الأيوبي على الحكم من بعدهم، انتقى القاضي الفاضل – أحد وزراء صلاح الدين الأيوبي المشهورين ومؤرخ معروف للحقبة الأيوبية وكتب سيرة صلاح الدين – مجموعة ضخمة من كتبها ووقفها على مدرسته الفاضلية بالقاهرة" (ص51، 4)

المصادر والمراجع

1. ألف اختراع واختراع = 1001 Invention / سليم الحسني .- ط2: طبعة عربية (ط1: اللغة الإنجليزية، 2006).- لندن: مؤسس العلوم والتكنولوجيا، مانشستير: جامعة مانشستر، 2006.- أبو ظبي: أبو ظبي للإعلام ، 2011

2. لمحات من تاريخ الكتب والمكتبات / عبد اللطيف الصوفي .- دار طلاس للطباعة والترجمة: الجزائر، 1987

3. من تاريخ الكتب والمكتبات في البلدان العربية / خيال الجواهري .- وزارة الثقافة في لجمهورية العربية السورية: دمشق، 1992

4. لمحات من تاريخ الكتب والمكتبات / عبد الستار الحلوجي .- دار الثقافة للنشر والتوزيع: القاهرة، 1991

5. دُور الكتب العربية العامة وشبه العامة لبلاد العراق والشام ومصر في العصر الوسيط/ يوسف العش، ترجمة نزار أباظة ومحمد صباغ .- دار الفكر المعاصر: بيروت، دار الفكر: دمشق، 1991

6. البداية والنهاية/ إبن كثير، تحقيق: عبد الله التركي.-الرياض: دار عالم الكتاب، 2002 (مج11)

7. الفهرست/ أبو الفرج محمد بن اسحاق ابن النديم، تحقيق:غوستاف فلوجل.- بيروت: مكتبة خياط، [د.ت]

8. المكتبات في الحضارة العربية الإسلامية / ربحي مصطفى العليان .- عمان: دار الصفاء، 1999

9. المكتبات في الإسلام / محمد ماهر حمادة .- بيروت: مؤسسة الرسالة، 1981

مراجع أجنبية

1. The Golden Age of Islam Maurice Lombard.- New York: Markus Wiener Publishers، 2003

2. Sea of Faith: Islam and Christianity in the Medieval Mediterranean World Stephen O’Shea.- London: Bloomsbury، 2006

3. A History of Medieval Islam John J. Saunders.- London: Routledge، 1978

4. When Baghdad Ruled the Muslim World: The Rise and Fall of Islam's Greatest Dynasty Hugh Kennedy.- Massachusetts: Da Capo Press، 2006