الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع

لماذا نحب تكرار كلمة "أحبك"؟

قد مرَّ الآباءُ والأمهاتُ جميعهم بتجربة طلب أطفالهم طلباتٍ لا نهائية مثل "أريد هذه اللعبة، أريد شطيرة..."، ويستمر الأمر دون توقف إلى أن يرفض الوالدان المنهكان تلبية رغبة طفلهم.

ويحدث شيء مشابه مع البالغين أيضًا؛ إذ يشعرون بوجود رغبة مماثلة في الحصول على شيء ما أو تحقيق نجاح يشبع رغباتهم نهائيًّا، ولكنهم دائمًا يفشلون في إشباع هذه الرغبة. كذلك الأمر في الحب، فلا يكتفي شخصٌ بالغ في علاقة عاطفية بأن يخبره شريكه بحبه له مرةً واحدة، بل يصرُّ على شريكه التكرار الأبدي لكلمة "أحبك" دون أن تُشبَع هذه الرغبة (1).

فمن أين تأتي هذه المطالب؟

يعرّف الطبيب والمحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان (Jacques Lacan 1981 - 1901) الرغبة بالمعادلة الآتية:

الطلب - الحاجة = الرغبة (أي إنّ الرغبة هي حاصل طرح الحاجة من الطلب).

إنّ الإنسان يولد في حالة من العجز وغياب القدرة على إشباع احتياجاته الخاصة، وبالتالي يعتمد على الآخر لمساعدته في إشباع احتياجاته. ومن أجل الحصول على مساعدة شخصٍ آخر؛ يعبّر الرضيع عن احتياجاته بصوت عالٍ (2). وعن طريق ترجمة الاحتياجات إلى مطالب، تصبح الاحتياجات مثقلة بفائض ذي أهمية أكثر من مجرد احتياجات بيولوجية، فبفضل ما يضيفه الآخرون إلى تجارب الطفل في أثناء تلبية احتياجاته من خلال إضافة معانٍ إلى هذه الاحتياجات، فإن تلبية احتياجات الطفل تصبح مقياسًا أو اختبارًا لمكانة هذا الطفل في علاقته مع الآخرين (1)، وسرعان ما يكتسب حضور الآخر أهمية تتجاوز إشباع الحاجة؛ إذ يرمز الحضور لمحبة الآخر، ويصبح الطلب مزدوجًا فهو طلبٌ لإشباع حاجة معيّنة وطلبٌ للحب.

وفي حين أن الآخر يمكن أن يوفر الأشياء التي تحتاجها هذه الذات، لكنه لا يمكن أن يوفر ذلك الحب غير المشروط، وهذا البقايا غير المشبعة من الطلب هي الرغبة (2).

وبالعودة إلى مثال الطلبات اللانهائية للأطفال؛ فيمكن لوالدَي الطفل الاستجابة لطلبه للطعام مثلًا، ولكنهم غير قادرين على تجسيد حبهم في شيء ملموس كالطعام أو الألعاب التي يريدها الطفل، ويخبرنا "لاكان" بأنّ الحب هو خلف كل مطلب مهما كان، مما يؤدي إلى حدوث دوامة متكررة من الطلبات من الطفل، آملًا أن يحصل على الحب في الطلب القادم (1)، فالطفل الجائع قد يرفض تناول الطعام إذا شعر أنه مقدّم من غير حب (كأن يُقدَّم الطعام بعد نفاد صبر والديه)، وكذلك طلب تكرار كلمة "أحبك" لا لسماعها مرة أخرى وإنما للشعور بالحب الذي يرافقها، وبذلك فإن الرغبة هي رغبة في رغبة الآخر (3).

ولا ينكر "لاكان" أنَّ الأطفال لديهم احتياجات بيولوجية أساسية تحتاج لإشباع مستمر، ولكنه يؤكد أن محاولات الطفل لتلبية هذه الاحتياجات في سن مبكرة تصبح مرتبطة بجدلية تبادلها مع الآخرين.

ولأن إحساس الطفل بذاته لا يُكتسب إلا من التماهي مع صور الآخرين (أو مع نفسه في المرآة)؛ يرى "لاكان" أنّ الرغبة البشرية تصبح فاعلة من خلال الآخر، ونرى ذلك جليًّا في "الموضة" كظاهرة بشرية أو عندما يتشاجر الأطفال من أجل شيء ما فقط لأن الآخر يرغب فيه، وعندما يفقد الآخر الاهتمام بهذا الشيء، يفقد الشيء جاذبيته للطفل أيضًا. ويوضح "لاكان" أنّ سبب حدوث لامركزية الرغبة هو ارتباط الاحتياجات البيولوجية الأساسية للفرد بتقلبات الاعتراف ومحبة الآخر (3).

وأنتم أصدقاءنا، هل تحبون تكرار سماع كلمة "أحبك"؟

المصادر:

1- Johnston A. Jacques Lacan [Internet]. Stanford University; 2022 [cited 2023 Dec 7]. Available from: هنا

2- Evans D. An Introductory Dictionary of Lacanian Psychoanalysis [Internet]. 1st ed. Routledge; 1996 [cited 2022 Apr 3]. Available from: هنا

3- Sharpe M. Jacques Lacan [Internet]. [cited 2023 Dec 7]. Available from: هنا