كتاب > روايات ومقالات

فلسفة الهزل مراجعة رواية حفلة التفاهة

بعد رحلة مليئة بالتميز عن سواه كان قد خاضها الكاتب والروائي الفرنسي ذو الأصول التشيكية ميلان كونديرا في أغوار الأدب، الذي عودنا على الروايات المكتنفة للغرابة التي كان من أشهرها رواية "الخلود"، ورواية "كائنٌ لا تحتمل خفته"، سيتركنا في حفلة يدعو إليها التاريخ والهزل والفلسفة مع روايته "حفلة التفاهة"، فعلى مدار سبعة فصول يصور لنا فيها كونديرا العالم بصورة هَزلية ملخصًا فهمه للحرية والانعتاق عن طريق ربطهم بالتفاهة، سيعبّر عن أنّ فهم هذا العالم يكمن في ألا نأخذه على محمل الجد.

 

فمع بداية العمل ومن الفصل الأول "الأبطال يتعارفون"، تظهر لنا مجموعة من الشخصيات التي جمعها الزمن الواحد وفرقتها الأحداث والمواضيع التي ارتأى كونديرا مناقشتها؛ إذ برر آلان الشهوة لمفاتن الجسد الأنثوي وعجز عن تبرير شهوته، كان رامون قد غيّر سيره نحو الحديقة هاربًا من الضجر الناجم عن الرتابة والقيود في المتحف ليرى شكل الحرية البشرية في أن يفعل المرء ما يريد لأنه فقط يريد فعله، في حين كان ينتظر دارديلو في عيادة طبيبهِ نتائج التحاليل ليعرف إن كان مصابًا بمرض السرطان أم لا، وفي حركة واحدة سيصهر كونديرا المشهدين فيلتقي نتيجة لذلك رامون بصديقه القديم دارديلو، ويجمع بينهما حديث طويل يطلب فيه الثاني من الأول مساعدته على إيجاد أشخاص ينظمون له حفلة عيد ميلاده القادم بعد ثلاثة أسابيع، ومع تحويط فكرة التفاهة في قادم الأحداث عن طريق السرد والقصص، ينتهي الفصل الأول. 

 

لندخل الفصل الثاني "مسرح العرائس" الذي يبدأه كونديرا مع حكاية يرويها عن لسان جوزيف ستالين مأخوذةً من مذكرات نيكيتا خارتشوف، الذي أصبح بعد سنوات من موت ستالين الزعيم الأعلى للإمبراطورية السوفيتية، وعليه نكتشف أن هذا الفصل جلستان منفصلتان يتناقش فيهما أبطال الفصل الأول مع شخصياتٍ إضافية ليتحدثوا في أثناء قسمات هذا الفصل بتخصصٍ عن هذه القصة، وعن حياة ستالين ومرافقيه خاصةً رفيقه كالينين بتتابع من القصص التي تجمع فيها التاريخ والفكر والهزل الذي ينهي بهم هذا الفصل.

لنرجع مع الفصل الثالث إلى بداية الرواية ليذكرنا الكاتب بالأرق الشهواني المصاحب ل "آلان"، الذي شغل باله مدةً ليست بالقصيرة، فيعطيه السبب الذي كان يبحث عنه في أثناء الفصل الأول، ويسلّم بعدها كونديرا زمام الأحداث في هذا الفصل لامرأة شابة مترجلةً من سيارتها في إحدى الضواحي، متوقفة على طرف الجسر لتسلم نفسها طواعية للموت، وحيثما هي كان هناك شابٌ يرى الأمر منذ وصولها إلى الجسر، وفيه سيستعين كونديرا ليصور عن طريق رأي المرأة في دأب الشاب لمساعدتها. التفاهة التي قد تجعل من شخص يحاول إنقاذ شخص من أجل الشهرة

فهل ينجح ذاك الشاب في سرقة الموت من تلك المرأة؟ وما الصراع الذي ينتظرها حالما يضعنا الكاتب في صدده؟ سينهي الفصل مع آلان وشارل في محادثة هاتفية يتناقشان في أثنائها كلٌّ عن أمه وبإسهاب عن فكرة الاعتذار.

ومع كالبيان الذي حال خيال المسرح بينه وبين واقعه، وحوّلته الرغبة في العمل به إلى إنسان عاطل عن العمل، سنبدأ فصل الرواية الرابع "الجميع يبحثون عن روح الدعابة"، ونمضي في حفلة عيد ميلاد دارديلو التي ارتأى رامون أن ينظمها شارل وكالبيان الذي أوجد له شارل هذا العمل، وكان دائم التنكر بشخصية رجل باكستاني؛ كي لا ينقطع عن المسرح التي تضيف المتعة على عمله.

ويجمع  كونديرا في هذه الحفلة شخوص عمله هذا، ويظهر فيها الإرهاصات الداخلية التي تعانيها كل شخصية على حدى، ومع استمرار اللقاءات غير المتوقعة بين شخصيات رئيسة قد ذُكرت، وشخصيات فرعية جديدة مرتبطة بماضيها، ينهي الفصل الرابع لينتقل بخفة إلى الفصل الخامس "ريشة تحلق تحت السقف"، لنجد شارل على حاله الذي تركناه عليه في الفصل السابق محدقًا يراقب ريشةً تطير في السماء، وفي الوقت الذي كان فيه غارقًا في تأملها وخيالاته، يخلق الكاتب ضمن معترضتين حوارًا مُتخيلًا بين ستالين وكالينين بصفتهما مدعوان إلى الحفلة، ثم يعود إلى واقعية هذه الحفلة مع مشكلات رامون الداخلية التي تزداد شيئًا فشيئًا حتى تطفح خارجًا، فيجمعه وكالبيان مونولوج قد سبكه كونديرا بفلسفته التي بنى عليها الكتاب حتى ينتهي، فتدخل الواقعية لأول مرة عتبة هذه الرواية مع إبداء رامون لرأيه عن مزاح كالبيان في إخفاء هويته، ومع ظهور آلان في حوارٍ مُتخيل مع والدته وخروج رامون من الحفلة، سنخرج من الفصل الخامس لننتقل مع نهايتها نحو الفصل ما قبل الأخير "سقوط الملائكة"، الذي تسقط فيه قبضة ستالين على الطاولة مع كل كلمة في أثناء حديثه الذي أدخله كونديرا الذي يحدث دائمًا ضمن هذه الرواية، ويسقط كأنه بيان مع زجاجة الشراب الذي اشتراها آلان ثمَّ بوتيرة سريعة سنرى أن هذا الفصل عبارة عن سقوط يتبعه سقوط آخر في مشاهد منفصلة عن بعضها البعض، وعليها سيُسدل الستار عنه ونتجه نحو الفصل الأخير "حفلة التفاهة"، الذي سيبدأ بسلسلة من الاعتذارات بين آلان وأمه، ومع التقادم سيخلُق كونديرا نهايةً لروايته تقارب البداية في المكان والأشخاص، وتختلف عنها في الزمن مدافعًا فيها عن التفاهة بكل ما أوتيَ من جمالية في صوغ الحوار.

كان كونديرا قد نظّم "حفلة التفاهة" بنظامٍ من المشاهد المنفصلة وبشخصيات كثيرة لا يربطها إلا القليل، وبطريقة قد يخالها القارئ للوهلة الأولى عبثية في المطلق ومع دنو هذه الرواية صفحة تلو صفحة من النهاية، سنكتشف الاتساق الرهيب الذي ربط فيه كونديرا شخوص هذا العمل محولًا إياهم إلى دائرةٍ من القصص المحبوكة مركزها فكرة واحدة هي التفاهة، وبنظامٍ مشهديٍّ يشعرك تمامًا بأنك داخل حفلة كل شخص يخوضها بطريقته

المؤلف: ميلان كونديرا

المترجم: معن عاقل

الناشر: الدار البيضاء

سنة النشر: الطبعة الأولى 2014

عدد الصفحات: 112