الفيزياء والفلك > فيزياء

مشروع مانهاتن؛ تاريخ صناعة الدمار

في تمام الساعة 5:29 صباحًا يوم 16 تموز عام 1945م، شهد العالم أول انفجار لقنبلة نووية عرفتها البشرية كاشفةً الستار عن حقبة تاريخية جديدة، تبدلت فيها موازين القوى العالمية، وكانت سببًا في نهاية الحرب العالمية الثانية (1).

ألمانيا

في بداية ثلاثينيات القرن العشرين، توصل العلماء الألمان لتحقيق إمكانية استمرار تفاعلات الانشطار النووي ذاتيًّا بما يدعى "بالتفاعل المتسلسل" (1)، الذي يُعرف بأنه انبعاث مستمر للنيوترونات بعد انشطار نواة اليورانيوم لتصطدم النيوترونات الناتجة بذرات أخرى مصدرةً مزيدًا من النيوترونات، وهكذا في تفاعل ذاتي منتجةً كميات هائلة من الطاقة (2)، وكانت الفيزيائية النمساوية السويدية ليز مايتنر، مع الكيميائي الألماني أوتو هان، من بين أوائل من حقق الانشطار الناجح لليورانيوم (1). 

عندما وصلت الأنباء إلى العلماء في الولايات المتحدة بأن الألمان يقودون مسار التطور النووي، بدأ زيلارد (1964 - 1898 Leo Szilard) بإعادة تجربة الألمان للتأكد منها، وعندما تأكد من نجاح التجربة قال: "في تلك الليلة، لم يكن لدي أدنى شك في أن العالم كان يتجه نحو البؤس"، وبدأ زيلارد العمل مع العالِم فيرمي (Enrico Fermi 1901-1954) لبناء مفاعل نووي في جامعة كولومبيا الأمريكية، لكن في أثناء ذلك، خشي زيلارد أن العلماء في ألمانيا كانوا يبنون مفاعلاتهم الخاصة أيضًا (1).

تحذير

 عام 1939، قرر زيلارد الاتصال بآلبرت آينشتاين لمناقشة التقدم الألماني في مجال التطور النووي، وصاغا معًا رسالةً إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت يقولان فيها: "هذه الظاهرة الجديدة ستؤدي إلى بناء قنابل قوية للغاية من نوع جديد "، ولم تصل الرسالة إلى روزفلت إلا بعد شهرين، لكن بمجرد علم الأخير بالمخاطر المحتملة التي تمثّلها الأسلحة النووية، استجاب بتشكيل لجنة استشارية لليورانيوم (1,2).

كانت التحركات الأمريكية في اتجاه تطوير السلاح النووي بطيئة ومترددة في البداية، إلى أن ضربت اليابان القاعدة البحرية الأمريكية "بيرل هاربور" في هاواي أواخر عام 1941، عندها دخلت الولايات المتحدة رسميًّا في الحرب، واكتسبت مسألة تطوير اليورانيوم وبناء القنبلة الذرية اهتمامًا أكبر (1).

مانهاتن

في عام 1942، أنشأ فيلق الجيش الأمريكي مقاطعة مانهاتن الهندسية، التي سُميت بموقع مكاتبها في مدينة نيويورك، وكان مشروع مانهاتن مشروع الحكومة الأهم على الإطلاق والأكثر سريةً ودعمًا؛ إذ تلقى دعم الرئيس روزفلت والقيادة العسكرية وعلماء البلاد الأكثر تميزًا، وعُيّن العقيد ليزلي غروفز لرئاسة المشروع، وفي غضون يومين من تعيينه، اتخذ غروفز قرارات سريعة للمضي قدمًا في المشروع، واختار ثلاثة مواقع أساسية لتصنيع قنبلة ذرية (1).

التخصيب

اختار جروفز أولًا منطقة أوك ريدج في ولاية تينيسي الأمريكية موقعًا لتخصيب اليورانيوم، وكان من مواقع المشروع الرئيسة أيضًا لوس ألاموس في ولاية نيو مكسيكو الأمريكية لبناء القنبلة الذرية، وآخر موقع كان هانفورد في واشنطن، الذي عينه لإنتاج البلوتونيوم من نظير اليورانيوم U-238، وعلى الرغم من أن البلوتونيوم ليس عنصرًا طبيعيًّا، فقد اكتشفه العلماء داخل مفاعلات اليورانيوم وقد أثبت البلوتونيوم أنه معدن أكثر إشعاعًا، ولديه إمكانية أكبر لتحقيق الانشطار النووي بنسبة 1.7 ضعفًا (1,2)، واعتمدت قنبلة البلوتونيوم على الانفجار الداخلي التفاعلي بدلًا من ثقبه برصاصة، وهو أمر شائع في قنابل أسلوب البندقية الذي يعمل أفضل مع اليورانيوم (1).

في أوك ريدج، تينيسي، كانت مهمة استخراج اليورانيوم النشط أمرًا في غاية الصعوبة؛ لأن اليورانيوم - 235 الموجود في جزء واحد فقط من 140 جزءًا من اليورانيوم الطبيعي، هو النظير النشط المطلوب في صناعة القنبلة وليس اليورانيوم - 238 الأكثر وفرة، وكانت هذه النتيجة مهمة لأنها تعني أن التفاعل المتسلسل باستخدام اليورانيوم - 235 يحتاج إلى فصله عن اليورانيوم - 238 وهي عملية تسببت في مشكلات خطيرة، واعتمدت عملية فصل اليورانيوم على طرائق عدة كالفصل باستعمال الأمواج الكهرومغناطيسية وانتشار الغاز وخاصية الطرد المركزي والانتشار الحراري السائل (2).

أُُنفق ما يقرب 2.2 مليار دولار على مرافق الإنتاج والبلدات التي بُنيت في ولايات تينيسي وواشنطن ونيو مكسيكو،  وعلى البحث في مختبرات الجامعات من كولومبيا إلى بيركلي، وكانت السرية في مشروع مانهاتن عاليةً لدرجة أن كثيرًا من العاملين في المشروع الذين بلغ عددهم 130 ألفًا، لم يعرفوا ما كانوا يعملون عليه حتى سمعوا عن قصف هيروشيما عبر الراديو (2,3).

والجدير بالذكر أن المغناطيس الذي كان يُستعمل في تخصيب اليورانيوم احتاج إلى الكثير من النحاس لدرجة أن الجيش اضطر إلى اقتراض ما يقرب من 15 ألف طن من السبائك الفضية من الخزنة الأمريكية لتصنيعها في شرائط ولفائف بصفتها بديلًا للنحاس (2).

أوبنهايمر

أما في لوس ألاموس، نيو مكسيكو،حيث يوجد مختبر تجميع القنبلة النووية، عُين روبرت أوبنهايمر (Robert Oppenheimer 1904 - 1967) مديرًا للمختبر، وأثبت أنه مدير ممتاز على الرغم من المخاوف الأولية بشأن قلة خبرته الإدارية وتعاطفه السياسي اليساري، وافتقاره إلى جائزة نوبل عندما كان عدة علماء ممن سيوجههم من الفائزين بالجوائز، وعمل جروفز  جيدًا مع أوبنهايمر على الرغم من أن الإثنين كانا مختلفين اختلافًا جوهريًّا في المزاج؛ إذ كان غروفز رجلًا عسكريًًّا ذا عقلية عملية، فظًا وموجهًا نحو الهدف، في حين كان أوبنهايمر رجلًا فلسفيًّا، منجذبًا إلى الأساطير الشرقية ولديه فكر نظري، لكن تميّز تحالف جروفز-أوبنهايمر بالاحترام المتبادل وكان عاملًا رئيسًا في نجاح مشروع مانهاتن (2).

أمضى أوبنهايمر الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1943 في السفر عبر البلاد دون كلل في محاولة لتكوين فريق من علماء الدرجة الأولى، وبرع في تلبية الاحتياجات العاطفية والفكرية لفريقه، ويقول هانز بيته (Hans Bethe)، رئيس القسم النظري: "كان لدى الجميع بالتأكيد انطباع بأن أوبنهايمر يهتم بما يفعل كل شخص بعينه، ويُوضح أن عمل هذا الشخص مهم لنجاح المشروع بأكمله" (2).

اليابان

على الصعيد العالمي، في عام 1945 وقبل أسابيع فقط من استسلام ألمانيا غير المشروط، توفي الرئيس روزفلت فجأة في جورجيا، وبذلك وصل ترومان إلى الرئاسة، وكانت اليابان في ذلك الوقت على وشك الهزيمة، إذ كانت الطائرات الأمريكية تهاجم المدن اليابانية كما تشاء، وتسببت غارة واحدة في قتل ما يقرب من 100 ألف شخص وإصابة أكثر من مليون في طوكيو، وأسفر هجوم جوي ثان على طوكيو عن مقتل 83 ألفًا آخرين، ولم يكن هدف أمريكا إنهاء الحرب وحسب، فالنتيجة كانت محسومة لكنها أرادت استعمال السلاح النووي لإعادة ترتيب شكل النظام الدولي بعد الحرب (2).

في محاولة للاستسلام بشرف، أمر الإمبراطور الياباني وزرائه بفتح مفاوضات مع روسيا، فاعترضت الولايات المتحدة وفككت تشفير الرسائل بين طوكيو وموسكو التي أوضحت بشكل لا لَبْس فيه أنه كان اليابانيون يبحثون عن بديل للاستسلام غير المشروط، في حين كان السياسيون الأمريكيون حريصين على إنهاء الحرب دون إلزام الجنود الأمريكيين على غزو الأرض اليابانية، فلم يميلوا إلى مراجعة صيغة الاستسلام غير المشروط، والتسبب في مزيد من التأخير، وفي حين كان الجانب الروسي يستطيع إقناع اليابان بالاستسلام، كان يعني ذلك مشاركة روسيا وستالين في إدارة اليابان بعد الحرب، وهو وضع من شأنه أن يهدد الخطط الأمريكية في الشرق الأقصى، لذلك؛ كان على الولايات المتحدة أن تتدخل سريعًا (2).

في 6 آب 1945، ألقت أمريكا قنبلةً نوويةً ذات مركز من اليورانيوم سمتها "بالولد الصغير" على مدينة هيروشيما اليابانية بصفتها في رأس قائمة المدن التي لا يوجد فيها سجناء أمريكيون وكانت حصيلة القتلى ٢٠٠ ألف إنسان بريء.

وبعد يومين، في 8 آب، أعلن الاتحاد السوفيتي الحرب على اليابان مما أنهى الآمال الأمريكية في أن الحرب ستنتهي قبل دخول روسيا إلى مسرح المحيط الهادئ، مما يهدد مصالح الولايات الأمريكية في الشرق الأقصى، ما دفعها إلى إلقاء قنبلة ثانية سمتها "بالرجل السمين" ذات مركز من البلاتينيوم يوم 9 آب لتعلن اليابان استسلامها في 14 آب 1945 منهية الحرب (2,4,5).

رحى الحرب لا ترحم، فواتيرها طويلة بأسماء أشخاص لا حول لهم ولا قوة وقعوا تحت سلطة تتربع على كرسي من الأشلاء وسط قوى عالمية تتنازع وفق مصالحها الخاصة، وتسود فيها الكلمة للأقوى والأكثر دموية. 

هل كانت القنبلة النووية قدرًا لا بد أن يقع؟ عَلَمًا يلمسه أول من يفوز في السباق ليتربع على هرم القوى العالمية؟ هل كانت واجبًا وطنيًّا أم شرًا أوقظه البشر؟ هل كانت مفتاح السلام في تحقيق التوازن بين قوى الدول الكبرى؟ أم زر إفناء للبشرية؟

حقًا لا نعلم.

صور من الأرشيف:

أوبنهايمر والجنرال غروفز وبقايا برج اختبار ترينيتي 1954.

منظر جوي لمدينة أوك ريدج.

عمال الحرب يتنقلون بالحافلات إذ كانت الإجراءات الأمنية المشددة في أوك ريدج تفرض على الركاب حصر محادثاتهم في مواضيع بسيطة.

نموذج لقنبلة يورانيوم الولد الصغير.

المصادر:

1. Burton KD. “Destroyer of Worlds”: The Making of an Atomic Bomb [Internet]. The National WWII Museum | New Orleans. 2020. [cited 2023 Jul 30]. Available from: هنا

2. Gosling FG. Manhattan Project - Making the Atomic Bomb | National Security History Series [Internet]. United States: Office of History and Heritage Resources and the National Nuclear Security Administration; 2010 [cited 2023 Feb 14]. p 128. Available from: هنا

3. Hughes J. The Manhattan Project: Big Science and the Atom Bomb [Internet]. Columbia University Press; 2003 [cited 2023 Jul 30]. p 200. Available from: هنا;

4. 良平中根. 広島,原爆投下(その2). 日本原子力学会誌atomoς. Journal of the Atomic Energy Society of Japan

[Internet]. 2010 [cited 2023 Aug 2];52(1):53–4. Available from: هنا

5. トルーマン声明;中根 良平. 広島,原爆投下(その1). Journal of the Atomic Energy Society of Japan [Internet]. 2009 [cited 2023 Aug 2];51(12):895–6. Available from: هنا