كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

الجدل بصفته منطقًا لشوبنهاور

قليل من الناس يحسنون التفكير، لكن يريد الجميع أن يمتلك الآراء

فخارجًا عن الصورة النمطية التي كانت قد صُدّرت للكاتب والفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور– 

Arthur Schopenhauer (22 فبراير 1788 – 21 سبتمبر 1860)

الحائز على الدكتوراه في الفلسفة الذي اشتهر في سنواته الأخيرة بفلسفته التشاؤمية والزهد إلى العدمية التي وسمت بها معظم أعماله؛ إذ تبنى فكرة أنَّ الحياة ليس فيها غير الألم والمرض والشيخوخة والموت بعد أن انصبّ على دراسة بوذا، فقد كان كتاب "فن أن تكون دائمًا على صواب" نتاجًا منطقيًّا خالصًا للوقوف حائلًا أمام الأصابع التي مُدّت إليه متهمةً إياه يومًا باللاعقلانية.

وقد بدأ شوبنهاور وضع محاور هذا الكتاب بانيًّا قسماته على واقعيّة جدال اعتيادي بين متحاوريّن أو أكثر، حتى اختمرت الصياغة بالفكرة، ومن هذه التقاطعات صُنع "فن أن تكون دائمًا على صواب" لدى شوبنهاور ليكون بذلك وبمنتهى الدقة قد صار يصف الحوار في حقيقة الأمر على أنه فنٌ يجب أن يتمتع به جملةً وتفصيلًا من يحاول أن يقنع الآخر بنظرته، أو ممن يؤمنون بنسبية الحياة وندرة وجود اليقينيات فيها، فلا تُوقع بهم أي خدعةٍ جدليّةٍ من تلك التي ذُكرت في هذا الكتاب، فيصور لنا شوبنهاور الجدل الذي يمارسه البشر يوميًّا بصورة حربٍ قائمةٍ بحد ذاتها، التي يُراد من غالبيتها في النهاية ليس الوصول إلى الحقيقة التي تبدو أنها هدفٌ ظاهري، وإنما انتصار شخصٍ على الآخر في ساحة الحوار. مشبهًا إياها وبصريح العبارة بمبارزة سيافين، ففيها لا يهم من هو على صواب ومن هو على خطأ، ومن يمتلك الحقيقة بقدر ما يهمّ في هذه المبارزة التصويب والتفادي، على اعتقاد أنّ الجدل مشادةٌ فكرية، ومستخدماً في ذلك مصطلح "الجدل المرائي" بصفته كنايةً عن الحوار الهادف إلى انتصار أحد طرفيه أو كلاهما دون الوصول إلى نتيجة مرضية، وهذا ما دل عليه في فصله الأول "حرب الكلام" لهذا الكتاب؛ إذ يرى أن يكون وجوبًا لدى المحاور الثبات على ما يبديه من رأي، أو أن الطرف الآخر سيستغل أي ثغرة يُبديها مناظره للانقضاض برأيه وفرضه على أنه حقيقةٌ لا مجال لجدليته أو لنقده، وعليه لم يكن شوبنهاور يرى ما يراه وهو مقتنع بصوابه؛ فبرأيه لو أن الإنسان يبحث عن الحقيقة فعلًا بدلًا من السعي لإثبات رأيه، لما كان لهذا الكتاب من معنى، ومادام أن الذي يخرج منتصرًا من المجادلة ليس بالضرورة أن يكون صاحب الحكم الصائب فيها، بل إن المنتصر يجب عليه أن يُدين للمهارة والبراعة التي دافع بهما عن دعواه. كان هذا الكتاب ضروريًّا ليكون عونًا من قبل كاتبنا في هذا الصراع المستمر، وعليه يتابع شوبنهاور فيقسم أساس الجدل إلى قسمين "الأسلوب والطريقة"، وكل منهما يُسند إلى بندين، فالأسلوبان هما الحجة على الموضوع والحجة على الذات -سباق التنازلات-، أما الطريقتان فالأولى هي الدحض المباشر؛ إذ يدحض المحاور الدعوى من أساسها، والثانية هي الدحض غير المباشر؛ إذ يدحض الدعوة من نتائجها، ويتابع ليشرح الطريقتين شرحًا مفصلًا وصولًا بذلك إلى الحيل التي قسمها شوبنهاور إلى ثمانٍ وثلاثين حيلة ستجعل الملم بها عند رأيه فنانًا في فن أن تكون دائمًا على صواب، وفي ظل ذلك يُعالج الكاتب الحيل بشقين من المعالجة ليطرحهم نظريًّا، ثمَّ يأتي بنماذج عملية وأمثلة عنها معطيًّا بذلك لكل حيلة حقها، وفي ضوء كل ذلك سنشاهد الحوار من منظور لاعب الشطرنج؛ فتصبح كل حركة في هذا الفن لها أبعادها التي ستودي في نهاية المطاف إلى الظفر براية النصر الجدلي.

يتفق شوبنهاور في كتابه وأرسطو أحد أهم فلاسفة اليونان وصاحب فلسفة الوجود التي تعدُّ من أهم الفلسفات حتى الآن على ضرورة اختيار المجادل لخصمه حتى لا تصبح مجادلتك وحججك عرضةً للسخرية والتهكم؛ فتسير بذلك إلى اللاجدوى المطلقة، ثمَّ يختتم كتابه بملحقٍ من ثلاث فصول قصيرةٍ يناقش في ثلاثتهم بعض التعبيرات الفلسفية وتطوراتها عبر الزمن، لترادف الجدل والمنطق ثم اختلافها في الوقت ذاته مستشهدًا بآراء عدة كتاب في هذا الصدد.

ولنكون موضوعين؛ تتسم المادة الأدبية لهذا الكتاب من طرف المترجم بالجزالة اللغوية في أثناء الطرح، إلا أنها مقدورة التدارك والإدراك. هذا وفي الوقت نفسه ما لا يقلل من التعب والجهد المبذول من قبله في تقويض الكتاب، إضافةً إلى الإسهاب اللازم والمعلومات الوافية له، لكن في ظل ذلك سنشرح ما يمكن شرحه من مصطلحات قد تشكّل معوقًا بسيطًا لقرّاء هذا النوع من الكتب لأول مرة، فنبدأ مع "الجدل" الذي قد عرّفه أرسطو في كتابه "الجدلية" بأنه عملية مناقشةٍ بين شخصين أو أكثر عن موضوع معيّن، وتهدف إلى الوصول إلى الحقيقة والتفاهم عن طريق تبادل الأفكار والآراء والحجج بطريقة منطقية ومنظمة، وسيرى القارئ مع مصطلح الجدل استخدام الكاتب  لمصطلح السفسطائية، وربطه فيه؛ إذ نعرّف السفسطائية أنها مذهب فكري فلسفي نشأ في اليونان إبان نهاية القرن السادس وبداية القرن الخامس ق.م في بلاد الإغريق، بعد انحسار حكم الأقلية الأوليغارشية، وظهور طبقة حاكمة جديدة ديمقراطية تمثّل الشعب، وقد ظهر السفسطائيون على أنهم مُمثلين للشعب وحاملين لفكره وحرية منطقه ومذهبه العقلي. يستخدم مصطلح السفسطائية في العصر الحديث لوصف المغالطة وهو النقاش الذي يسعى فيه أحد الطرفين للمرواغة، وكسب النقاش باستخدام حجج وقرائن لا علاقة لها بصلب الموضوع. إنما تلتف حوله وسيمر معنا في هذا الكتاب مصطلح المُماحَكة الذي يدل على المُجادَلة في الأُمور التافِهة والمُنَازعة الكلاميّة في ما لا طائِلَ منه.

معلومات الكتاب: