الفنون البصرية > أعمال سينمائية

مراجعة مسلسل (The Bear) طبق من الصِّنف الأول

ليس الطعام قوتًا لأجسامنا لتقوى على النهوض والعمل فقط؛ بل تجربةٌ إنسانيةٌ وشعوريةٌ أيضًا، فرائحةٌ عابرةٌ من نافذة أحد المنازل كفيلةٌ باستحضار ذكرياتٍ مدفونةٍ تعيدك إلى لحظاتٍ مرت، أو تعيد لك أشخاصًا رحلوا، ومع كل طبقٍ جديدٍ نكهةٌ جديدةٌ ورائحةٌ جديدة؛ هناك أملٌ في تكوين ذكرياتٍ ولحظاتٍ وروابطَ جديدة.

 مسلسل (الدب - The Bear) -آخر إنتاجات FX، وأحد أحدث الأعمال التي تناولت هذه الأفكار- يروي لنا قصة "كارمين" (الدب) الذي ترك عمله بوصفه (طاهيًا) في أفضل مطعمٍ في العالم ليعود إلى مدينته ومطعم أسرته المتواضع بعد وفاة أخيه ليلملم شتات المطعم والأسرة، وقبل كل شيءٍ شتات نفسه. المسلسل من بطولة مجموعةٍ من الوجوه غير المألوفة في مقدمتهم "Jeremy Allen White" بدور "كارمي"؛ وجوهٍ قدمت أداءً متقنًا وعفويًّا انسجم وتكامل مع سرعة وتيرة المسلسل، ففي أحلك اللحظات وأنت تغرق في مشاعر الألم والضيق التي تنساب من ملامحهم المتعبَة؛ تجد نفسك في اللحظة التالية تنفجر معهم ضاحكًا .

ويعود الفضل بهذه الوصفة المتوازنة إلى صانع المسلسل وشيف ما وراء الكواليس "كريستوفر ستورير - Christopher Storer" الذي جعلنا -ومن أول مشهدٍ من أول حلقة، وحتى المشهد الختامي أمام كل خيارٍ سرديٍّ في بناء القصة أو التكون البصري- نصرخ: "نعم شيف!"، ويمكن أن نعزو نجاحه إلى سببين: توازن النكهات، والقوام المدروس.

فيكمن السبب الأول في خلقه قصةً تحتوي الدراما والكوميديا، لكن قبل كل شيء؛ هي قصةٌ عن المطبخ؛ عن طعامٍ بقي المحورَ الرئيس، والرابطَ بين الأحداث والشخصيات، فلم يكن فقط عنصرًا جانبيًّا يوجد في زاوية كل مشهد؛ بل كان أداةً استخدمها الشيف بدهاء، والمحركَ الأساسي في كل حبكةٍ فرعيةٍ وفي الحبكة الرئيسة التي شكلت عقدة المسلسل كاملًا، وكان في الحل أيضًا، واستطاع توظيفه في مناقشة قضايا أكثر عمقًا وجديةً مثل الصدمة الناتجة عن ضغط العمل، وتأثير الذكورية المسيطرة على عالم المطابخ.

أما السبب الثاني، فهو البناء الذكي للمسلسل، وتكمن صعوبة صناعة المسلسلات في حقيقة أن المُشاهِد لديه الحرية الكاملة في أن يطفئ التلفاز أو ينتقل إلى مشاهدة شيءٍ آخر؛ إذ إن التحدي هو جعله يختار مجددًا ومجددًا مشاهدة مسلسلك.

وهنا تفوّق "Storer" الذي جعلنا نفهم ملامح هذا العالم، وقدم لنا من البداية لمحةً خاطفةً عن الشخصيات، كاشفًا ما يكفي من ميزاتها وعيوبها ومخاوفها والتحديات التي تواجهها لإعطائها أبعادًا إنسانيةً وواقعيةً وجعلها مألوفةً ومحببةً لنا، لكن دون أن يجيب عن الأسئلة كلها؛ تاركًا لنا القليل من الفُتات في كل حلقةٍ ليجبرنا على العودة من جديدٍ في كل مرة.

لكنَّ موازنة المكونات وتشكيل القوام لا يفوقان التقديم في الأهمية، وهو أمرٌ لم يغفل عنه الشيف مقدمًا لنا طبقًا نظيف الحواف؛ كوِّنَتْ عناصره واختِيرَتْ ألوانه لتشكل متعةً بصريةً بحتةً في خدمة النكهة.

لم تكن خياراته الإخراجية لنقل الأحداث وتوجيه أعيننا إلى الأماكن الصحيحة فقط؛ بل أيضًا لعكس الحالة الذهنية والشعورية للشخصية والمحيط جميعًا، ففي كل مرةٍ تظهر فيها الساعة من تلك الزاوية الحادة؛ ستشعر بالضغط وتحبس أنفاسك وتستقيم جلستك، وفي حين يفشل "كارمي" في إيجاد الكلمات لوصف مشاعره؛ نفهم كل شيءٍ عندما يظهر لنا الدب خلف القضبان، والأهم من هذا كله أنه استطاع أن ينقل لنا الإحساس بهوُية المكان -مدينة شيكاغو- وما يجري خلف أبواب مطابخ مطاعمها الشعبية من هلعٍ وفوضى وإبداع.

في خلال المسلسل؛ يترك كل مشهدٍ في فمك نكهةً لذيذةً مع تلاشيه: نكهة الأسرة بتعقيدتها؛ نكهة الطموح بمصاعبه؛ ونكهة ألم الفقدان بمرارته وبالفراغ الهائل الذي يخلِّفه، وتلك الرحلة التي عليك أن تعيشها لتتقبل وجود هذا الفراغ وتجد ما يكفي من المشاعر والذكريات لتملأه به؛ نكهةً ترغمك على العودة والمطالبة بالمزيد.

معلومات المسلسل:

العنوان: The Bear.

المخرج: Christopher Store.

الكاتب: Joanna Calo & Christopher.

سنة إنتاج المسلسل: 2022.

لغة المسلسل: الإنكليزية.

مدة المسلسل: 8 حلقات - الحلقة 30 دقيقة.