الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع

كيف يتحكم المجتمع بقراراتنا؟

 نتخذ يوميًّا مجموعةً من القرارات التي تؤثِّر في مجرى حياتنا ومستقبلنا، وبعض هذه القرارات معتادة وبسيطة تتعلق بأسلوب حياتنا اليومية وروتينها، وبعضها الآخر مصيري تترتَّب عليه تبعات كبرى ويُعدُّ نقطةَ تحوُّل حقيقية في مسار حياتنا كأن يتعلَّق باختيارنا التخصُّص الدراسي ومجال العمل لاحقًا، والبقاء في البلد أم اتخاذ قرار السفر، والإقدام على خطوة الارتباط والزواج وما يليها من قرار الإنجاب وعدد الأولاد المناسب أو إنهاء علاقة سامة تستنزف الطاقة، وكأنَّ حياتنا سلسلةُ قرارات مترابطة ترسم خط حياتنا ومساره، وتُحمِّلنا مسؤولياتٍ كبيرة، فهل نحن أحرار باتخاذ قراراتنا وتحمُّل تَبِعاتها، أم أنَّ مجتمعاتنا تمارس ضغطًا خفيًّا على هذه القرارات وتسيُّرنا بما يتلاءم معها؟

قد نعتقد بأنَّنا شخصيات فريدة تمتاز بعقل واعٍ لا يسمح للآخرين بالتأثير فيه، ولكن ليس هناك أحدٌ محصَّن حقيقةً أمام ضغط الأقران وأصحاب التأثير في المجتمع، القادرين على دفعنا إلى اتخاذ قرارات غريبة لا تتناسب مع شخصياتنا (1)؛ إذ إنَّ الضغط الاجتماعي قد يدفع شخصًا ما لقتل ابنته أو زوجته بحجة غسل العار وليظهر أمام المجتمع بمظهر "المدافع عن شرفه" ويحصل على رضا المجتمع وقبوله، أو يمكن أن يلجأ إلى تعنيف أطفاله بحجة أنَّه يربيهم ويؤدبهم بما يتناسب مع معايير المجتمع، وقد يدفع كذلك امرأةً إلى الاستمرار في علاقة تعنيفية خوفًا من أن ينعتها المجتمع بكلمة "مطلقة" وما يتبعها من أحكام مُسبقة، وقد يضغط على فتاة للقبول بزواج غير مناسب هربًا من نظرات المجتمع ولقب "العنوسة" المترافق مع التأخر في سن الزواج.

ولا يمكننا أن ننكر بأنَّنا أبناء مجتمعاتنا، فمنها نكتسب معتقداتنا وأحكامنا مثلما نكتسب لغتنا الأم ونتقبَّل مختلف السلوكيات التي تتقبَّلها جماعتنا على الرغم من غرابة بعضها، فالأفراد الذين يولدون في جماعة آكلة للحوم البشر يصبحون مستقبلًا آكلي لحوم بشر بتأثير الضغط الاجتماعي لجماعتهم (2). 

شكَّل تأثير الظروف الاجتماعية في تكوين آراء الأفراد وقراراتهم موضوعَ بحث عديدٍ من العلماء؛ إذ توصَّلوا إلى أنَّ الإنسان كائن اجتماعي مُنوَّم تقوده جماعته، وفسَّروا ذلك بالخوف من الإفصاح عن رأيٍ مخالف لرأي الأغلبية وتحمل تبعات هذا الاختلاف وما يترتَّب عليه من مسؤوليات ومشاعر قلق وتردد، وكذلك لعدِّ  الأغلبية على حق حتى لو لم يكن لديها حججٌ تدعم موقفها، وكذلك أدى الخوف من السلطة بأشكالها المختلفة سواء سلطة (الأسرة، أو الاعراف الاجتماعية، أو المعتقدات الدينية…) دورًا في تشكُّل الآراء والقرارات، وفي تجربة أجراها الباحثون، اختلف تقييم المشاركين في التجربة لمقطع أدبي تبعًا لأهمية الكاتب الذي نُسِب إليه العمل وجماهيريته (2).

وبذلك، يهدِّد الضغط الاجتماعي المُستمَد من سلطة المجتمع فرديةَ الأفراد وحرياتهم واستقلالهم، ولكنَّه يؤدِّي -أيضًا- دورًا في انضباطهم وتحديد معايير جمعية لسلوك الأفراد، وقد تصل حدَّ معاقبة المخالفين لهذه المعايير من خلال عقوبات اجتماعية غير رسمية مثل؛ "الرفض، والإدانة، والسخرية، والنبذ، والعداء…"، ولكنَّ غياب الحدود الواضحة لسلطة المجتمع والتدخُّل في تفاصيل حياة الأفراد كافةً وحتى قراراتهم الصغيرة أو المصيرية قد يحوِّل الضغط الاجتماعي إلى "استبداد اجتماعي"، وبذلك يطغى العُرف الاجتماعي على الجميع بما فيهم القانون، ويصبح السلطة الأكبر في المجتمع (3).

وتكمن إشكالية الضغط الاجتماعي بأنَّه قد يولد من ممارسة الأغلبية لحريتهم الشخصية من خلال قراراتهم اليومية وتعبيرهم عن آرائهم التي قد تتراكم عفويًّا لتُشكِّل ضغطًا اجتماعيًّا على حرية الأقلية المعارضة وتقصيها وتضطرها إلى إخفاء آرائها والتوافق مع الأغلبية، بل وقد تعاقبها في حال أفصحت عن رأي مخالف، وتُبرر الأغلبية هذا الضغط بأنَّه لمصلحة المجتمع والحفاظ على تماسكه (3)، وهذا قد يفسِّر الضجة المثارة مع كل إعلان عن زواج مدني لشخصين من أديان مختلفة، ويوضِّح التنمُّر والسخرية التي يتعرض لها من يبدي رأيًا أو يتخذ قرارًا مخالفًا توجهات الأغلبية. 

لكن على الرغم من التأثير السلبي للضغط الاجتماعي في قراراتنا وآرائنا، فبإمكاننا الاستفادة منه بوصفه قوةَ ضغط مهمة من أجل قضايا كبرى تخدم المجتمع (1)، فمع انتشار وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي المختلفة؛ شهدنا ظهور حركات لكسب التأييد والموافقة وتشكيل الحشود المناصرة لقضايا تصبُّ في صالح المجتمع، وأدَّى الضغط الاجتماعي دورًا في تحقيق مكاسب عديدة وتحصيل حقوق الإنسان عن طريق حملات الضغط المنظمة؛ إذ ترافقت كثيرٌ من قضايا الرأي العام والجرائم بحملات تطالب باتخاذ قرارات تُنصف الضحية، ونجحت بعض حملات الضغط بالتأثير في أصحاب القرار واتخاذ إجراءات تتناسب مع توقعات الرأي العام.

المصادر:

1. Douglas K, Jones D. How to make better choices. New Scientist [Internet]. 2007 [cited 23 January 2022];194(2602):35-43. Available from: هنا61134-8

2. Asch S. Opinions and Social Pressure. Scientific American [Internet]. 1955 [cited 5 January 2022];193(5):31-35. Available from: هنا

3. Threet D. Mill’s Social Pressure Puzzle. Social Theory and Practice. Florida State University Department of Philosophy [Internet]. 2018 [cited 15 January 2022];44(4):539-565. Available from: هنا