التعليم واللغات > اللغويات العامة

علاقة الأدب بالمجتمع وأثره فيه

دائمًا ما يتكرر على مسامعنا جملة مفادها أنَّ الأدب هو مرآة المجتمع، والسؤال هو ما مدى صحة هذه المقولة؟ هل يعكس الأدب فعلًا الواقع فقط أم يجمِّلهُ أم ينتقده؟ هل تقوم مهمته فقط على معالجة قضايا المجتمع والواقع أم يغوص أحيانًا في الخيال حتى يساعدنا على الهرب من واقعنا لوهلة على أمل تخفيف وطأة الحياة اليومية وقسوتها؟

هذا ما سنناقشه في هذا المقال مع ذكر أنواع الأدب وتأثيره في حياة المجتمع عمومًا ومدى علاقته بالعلوم الأخرى.

يَعدُّ بعض النقاد الأدب فنًّا من الفنون الجميلة إذ يعكس مظهرًا من مظاهر الحياة الاجتماعية، ويمثل صورة عن الواقع الاجتماعي بأبعاده النفسية والفكرية والشعورية والمادية، ويمكن من خلاله تسليط الضوء على معاناة معينة ويلفت نظر المجتمع إلى هذه المعاناة ومن ثمَّ يسعى إلى إيجاد حلول. وكذلك يعكس مشاعرَ الكاتب الذي بدوره يثير مشاعر وعواطف القراء ويجعلهم يعيشون أحداث الرواية التي يقرؤونها. ومن هنا نستنتج دوره الرائد في بناء المجتمعات والمساهمة في نهضة الشعوب وحركتها الحضارية. يَعدُّ البعض الأخر الأدبَ خليطًا بين الفن والعلم لاحتوائه على أفكار غيرت مجرى حياة كثير من الناس، بل غيرت مفاهيم متجذرة في المجتمع (1).

وفي الوقت نفسه لا يمكن غفلان الوجه الآخر من الأدب وهو وجه الخيال الذي يمكِّن القارئ من الانتقال إلى عوالم مختلفة من الخيال وتوسيع مداركه وإغناء حياته على الصعيدين المعنوي والروحي، وذلك بجعل القارئ يزور أماكن مختلفة في أزمنة وحِقب ومجتمعات متنوعة وذلك فقط من خلال جلوسه على أريكة في منزله ممسكًا كتابًا بقرب المدفأة (2).

المعنى الحرفي للأدب هو العمل المكتوب بأنواعه المتنوعة مثل الرواية والشعر والمسرح والقصص (النثر) والخيال العلمي. وعلى اختلاف وتنوِّع هذه الصيغ فهي تمثِّل مفهوم الأدب وتندرج تحته عمومًا. وأنواعها المتعددة بكل ما تحمله من تيارات (رمزية، واقعية ورومانسية، إلخ..) ما هي إلا وسيلة لإغناء وإرضاء الذوق العام الاجتماعي (2).

وأمَّا عن علاقة الأدب بالعلوم الأخرى وبالمجتمع ذاته فقد توصل علماء الاجتماع إلى مفاهيم وأوصاف أكثر تفصيلًا، وقد أولى بعضهم اهتمامًا أكبر للعلاقة بين المجتمع وأدبياته. ضمن إطارٍ معين، وليكن موضوعنا انتقائيًّا ودقيقًا أكثر، سنتناول على الأقل بإيجاز مناسب بعض أفكار بيير بورديو (Pierre Bourdieu) كما أوردها في كتابه "قواعد الفن" "The Rules of Art" مع بعض آراء نيكلاس لومان (Niklas Luhmann) المنشورة في الفن بوصفه نظامًا اجتماعيًّا في كتابه Schriften zu Kunst und Literatur من عام 1980 (3).

فوفقًا لبورديو تتكون المنطقة الاجتماعية بأكملها من عدد من المجالات مثل مجالات الاقتصاد أو السياسة أو الدين أو الفن، وهي مجالات متباينة في قواعدها ومنطقها، وهابيتوس -وهو مصطلح رئيس لبورديو يشير إلى الأنماط المكتسبة للسلوك الاجتماعي التي تحدد نمط حياة كل من الأفراد والمجموعات الاجتماعية. ويُنظر إلى التطور التاريخي على أنه يتحدد من خلال استقلالية متزايدة لمختلف المجالات الاجتماعية، وهو تطور يشعر بورديو بأنه تهديد (4).

أما فيما يتعلق بالبنية الداخلية للمجال الأدبي يوجه بورديو انتباه قرائه إلى وجهة نظره القائلة بأن "منتج قيمة العمل الفني ليس هو الفنان بل مجال الإنتاج بوصفه عالمًا من المعتقدات التي تنتج قيمة العمل الفني كصنم من خلال إنتاج الإيمان بقوة الفنان الإبداعية"، ويشير إلى مجموعة الوكلاء والمؤسسات التي تشارك في إنتاج قيمة العمل عن طريق إنتاج الإيمان بقيمة الفن عمومًا والقيمة المميزة لهذا العمل الفني أو ذاك (4).

فكما يقول بورديو عن حق :"يُصنع العمل مئات المرات على يد جميع أولئك الذين لديهم مصلحة فيه، والذين يجدون ربحًا ماديًّا أو رمزيًّا في قراءته وتصنيفه وفك تشفيره والتعليق عليه وإعادة إنتاجه وانتقاده ومكافحته ومعرفته وامتلاكه" (2).

من المعتاد في النهج الاجتماعي للأدب أن التركيز ينصب على الجانب المجتمعي والاجتماعي، وبطريقة ما بعد الحداثة يُنظر إلى مجال الفن والأدب، بما في ذلك الهابيتوس المقابل، على أنه يعتمد بالكامل على اعتقاد مجتمعي، وهو اعتقاد يقوم بدوره على الوهم، والالتزام باللعبة كلعبة قبول الفرضية الأساسية القائلة بأن اللعبة الأدبية أو العلمية تستحق أن تُلعب وتؤخذ على محمل الجد. ومن ثمَّ فإن الوهم الأدبي -الذي ينشأ عن الالتزام باللعبة الأدبية التي تؤسس الاعتقاد بأهمية أو مصلحة الروايات الأدبية- هو الشرط المسبق -الذي لا يُدرك دائمًا- للمتعة الجمالية التي هي دائمًا، جزئيًّا، متعة لعب اللعبة، والمشاركة في الخيال، والتوافق التام مع مباني اللعبة (1).

وأخيرًا، ما يمكن فهمه تمامًا هنا هو أن تأثير الأدب في المجتمع لا يمكن أن يكون إلا تأثيرًا غير مباشر بوساطة قرائه، ويعتمد على من يقرأ ماذا وعدد القراء الذين سيجدهم عمل معين بشرط معين وهو ما إذا كان سيُدعم نشره أو يُترك للصدفة أو يُعاق أو حتى يُقمع على يد مؤسسات المجتمع وفقا لديريك أتريدج (Derek Attridge) بكتابه "تفرد الأدب" (The Singularity of Literature)، ربما لا يكون الأدب تمامًا مثل السحر ولكنه عبارة عن تجربة حدث خاص، هو حدث مواجهة إعادة صياغة المعايير الحالية في فعل القراءة؛ أي حدثٌ يفتح إمكانيات جديدة للمعنى والشعور (إذ يُفهم على أنه أفعال) -أو على نحو أدق- حدث مثل هذا الافتتاح يمكِّننا من التحدث عن الأدب بصفته تجربة شعورية حسية لا يمكن معايشتها بالطبع إلا من القراء الأفراد، ومع ذلك فإن الشرط المسبق المهم لها يبقى هو الشرط الثقافي والاجتماعي (2).

المصادر:

1. Bourdieu P. Distinction: A social critique of the judgement of taste. Cambridge MA: Harvard University Press; 1987. p. 640. Available from: هنا

2. Sadraddinova NT, Nasirli KS. In: Literature - Mirror of Society. Sumgait, Azerbaijan: Sumgait State University; 2019. p. 56–9. Available from: هنا

3. Rudaitytė R. Literature in society. Newcastle upon Tyne, UK: Cambridge Scholars Publishing; 2012. p. 275. Available from: هنا

4. Bourdieu P. Rules of art: Genesis and structure of the literary field. California: Stanford University Press, Polity Press;1995. p. 432. Available from: هنا