الفنون البصرية > مدارس الفن

الانطباعية .. ثورة عفْوية على الرصانة والمثالية

نشأتها وكيف بدأت:

نشأت الحركة الانطباعية على يد مجموعةٍ من الفنانين تحت مسمى "المجتمع المجهول"، من رسامين ونحاتين ونقاشين، وذلك في العاصمة الفرنسية باريس عام 1874(1). ودُشنت الحركة من خلال تنظيم معرضٍ مستقل ومنفصل عمّا كان يُعرف ب"الصالون الرسمي" السّنوي، إذ كانت تُكرم فيه أعمال فنية من قبل لجنة تحكيمٍ تابعة لأكاديمية الفنون الجميلة (1,2). من أبرز الأعضاء المؤسسين للحركة الانطباعية كلود مونيه(Claude Monet)، وإدغار ديغا( Edgar Degas)، و كاميل بيسارو (Camille Pissaro)،  وإدوارد مانيه ( Edouard Manet)؛ الذي يُعرف بقائد هذه الحركة الرائدة، على الرغم من كونه لم يشارك في أي من المعارض الثمانية التي أقاموها، لكن أسلوبه الجريء، وحداثة مواضيعه ألهمت العديد من الفنانين الشباب الذين أصبحوا فيما بعد انطباعيين (3). 

تٌعد الانطباعية الحركة الأهم في تاريخ الفن الحديث، لقد رسم فنانوها بكل بساطة ما رأوه أو شعروا به أو كان يجول في خاطرهم، فلم يكن همهم رسم التاريخ أو الأساطير أو حياة الرجال العظماء، ولم يسعوا نحو الكمال في رسوماتهم، بل حاولوا نقل انطباعاتهم الخاصة، مثل كيف بدا لهم منظر طبيعي أو شيء أو شخص ما في وقت محدد من الزمن (2). إضافةً إلى ذلك، رفض الانطباعيون المشاركة في المعارض الرسمية، والمسابقات الفنية التي كانت تُقام من قبل الحكومة الفرنسية، ونظموا معارضَهم الخاصة التي قُوبلت بالرفض والعدائية من قبل الناس في بادئ الأمر (1-3).

الحصاد- كاميل بيسارو-زيت على قماش

هنا

الانطباعيون: أهم المنجزات

استخدمَ الانطباعيون فرشاة الرسم بمرونةٍ وخفة أكثر من الفنانين السابقين، إذ اعتمدوا على الدرجات الفاتحة من الألوان وهجروا المنظور ثلاثي الأبعاد التقليدي، ورفضوا أيضًا وضوح الشكل، الذي اعتمد سابقًا على تمييز العناصر الأكثر أهمية من الأقل أهمية في اللوحة، ولقد ذم عديدٌ من النقاد رسومات الانطباعيين بسبب مظهرها غير المكتمل وجودتها التي توحي بأن من رسمها ليس إلا هاوٍ(2). 

هَدفَ الانطباعيون أن يكونوا رسامين لكل ما هو حقيقي، وقد حاولوا التوسع في كل ما يمكن رسمه والابتعاد عن التناظر الكلي، وتصوير الأشكال التي يُنظر لها على أنها مثالية، وانصبوا على رسم العالم كما رأوه بكل اللامثالية التي يحتويها(2). وبالإضافة إلى تقنيتهم الراديكالية، كانت الألوان الزاهية في رسومات الانطباعيين صادمة لعيون اعتادت على ألوان الرسم الأكاديمي الأكثر رصانة. ومع تطوير الأصباغ الصناعية التي يستخدمها الرسامون في القرن التاسع عشر، توفرت درجات أكثر حيوية من الأزرق والأخضر والأصفر التي لم يستخدمها الرسامون من قبل، مثل الحال في لوحة " في القارب" لإدوارد مانيه والتي تمتاز بمساحة واسعة من درجتي الأزرق السيرولين والألترامارين الصناعي، في هذه اللوحة، يتجسد المَرَاكبي الأنيق ورفيقته -اللذان اقتُصا في تكوينٍ مُستوحى من الأسلوب الياباني- الحداثة في الشكل والموضوع والمواد التي استُخدمت في رسمها (1).

  في القارب- إدوارد مانيه- زيت على قماش 

هنا

انطباع شروق الشمس لمونيه تُعد نقطةَ تحوّلٍ وانطلاق للفن الانطباعي:

يُشار أحيانًا إلى انطباع شروق الشمس(Sunrise) لكلود مونيه(Claude Mone)؛ وبأنه العمل الذي أطلق حركة الانطباعية، على الرغم من أن مونيه كان واحدًا من مجموعة فنانين اتبعوا هذا الأسلوب في الفترة التي أنهى بها اللوحة، لكن في الحقيقة، ومن سخريات القدر، أن تعليقات الناقد لويس ليروي ( louis leroy)  التي عبر فيها عن ازدرائه لهذا العمل وعنوانه في مقالته التي سخر فيها من المعرض الانطباعي الأول عام 1874، هي التي أدت لظهور مصطلح "الانطباعية"، رغم أن ليروي استخدمه بأسلوبٍ مهين واستهزائي، لكن سرعان ما تبناه رسامو الحركة بفخرٍ وتحدي. 

إن أكثر ما يثير الانتباه في انطباع شروق الشمس اندماج ألوان البحر والأرض والسماء، وامتزاجها مع ألوان شروق الشمس الزرقاء والبرتقالية والخضراء، فاللوحة ليست عن المدينة التي تصورها، ولا عن البحارة المجهولين الذين يعبرون المياه، إن العنصر الأساسي هنا هو لون ضوء الشمس ودفئها الغامر، أو بالأحرى، هو الانطباع الذي يتركه هذا الضوء على الحواس في لحظة محددة من الزمن (2). 

شروق الشمس- كلود مونيه-زيت على قماش

هنا

"الرسم في الهواء الطلق" ومبتكرها كلود مونيه

يُعد كلود مونيه ( Claude Monet ) من أكثر فناني الانطباعية المحتفى بهم، و اشتهر بتمكنه من تصوير الضوء الطبيعي في مختلف الأوقات خلال اليوم؛  كمحاولة لالتقاط تغير وتقلب الظروف الطبيعية. كان يميل لخلق انطباعات عفوية لمواضيعه؛ مستخدمًا فرشاة ناعمة جدًا وألوانًا غير ممتزجة ليخلق شعورًا رقيقًا من الذبذبة؛ كما لو أن الطبيعة ذاتها تنبضُ بالحياة على قماش اللوحة. استخدم مونيه أسلوب "الرسم المبلل" (wet on wet) إذ كان يرسم طبقات متتالية دون تركها لتجف مما يخلق حوافًا ناعمة وحدودًا مبهمة(2). 

لقد كان لتقنية مونيه "الرسم في الهواء الطلق" انتشارًا واسعًا بين الانطباعيين،  والتي ورثها نتيجةً لتأثره برسومات المناظر الطبيعية لرسامي مدرسة الباربيزون ( The Barbizon School)، إذ أدى هذا النهج لابتكارات في تمثيل ضوء الشمس ومرور الوقت؛ وكلاهما مكونات أساسية في الرسم الانطباعي(2). شجع مونيه على أسلوب "الرسم في الهواء الطلق" باعتباره الطريقة الوحيدة لالتقاط التجربة الحسية للضوء والمحيط العام، وسعى إلى نقل اللحظة الآنية المباشرة على اللوحة القماشية، وهذا ما تجسد في انطباع بازيل وكاميل( Bazille and Camille)، وقد وُضحت السمة اللحظية للوحة من خلال وضعية الثنائي اللذان يبدوان كأنهما قد توقفا مؤقتًا للتو.

وفي الواقع، مونيه كان على معرفة وثيقة بالثنائي، فالرجل هو صديقه وزميله في الرسم فريدريك بازيل (Frederic Bazille)، أما المرأة فيُرجح أن تكون عشيقة مونيه واسمها كاميل (Camille)، التي تزوجها لاحقًا (3).

بازيل و كاميل - كلود مونيه- زيت على قماش

هنا

اتبع فنانون آخرون مثل بيرت موريزو(Berthe Morisot) وكاميل بيسارو (Camille Pissarro  ) وبيير رينوار (Pierre Renoir) وألفريد سيسلي (Alfred Sisley)  تقنية الرسم في الهواء الطلق، لكنهم ركزوا اهتمامهم على الشكل البشري، والحالة النفسية للشخصية الأساسية المتموضعة أمامهم في اللوحة(2).

إن صور رينوار، الذي عُرف بألوانه الزاهية والمشبعة والنابضة بالحياة، والنشاطات اليومية لجيرانه في حي مونمارتر ( Montmartre)،  وبالتحديد أوقات التسلية والمناسبات الاجتماعية لدى المجتمع الباريسي(2).

وأولى رينوار علم فراسة الوجه والسمات العاطفية للشخصيات في اللوحة انتباهًا أكثر من الأجواء العامة للمشهد، مستخدمًا الفرشاة بحركة مرنة وخفيفة لإبراز الشكل البشري(2). 

لم يهتم إدغار ديغا (Edgar Degas )بفكرة الرسم في الهواء الطلق، ورفض فكرة أن الرسم الانطباعي يجب أن يكون فعلًا عفويًّا أو تلقائيًّا، إن فضّل رسم المشاهدِ الداخلية للحياة الحديثة، مثل الناس الجالسين في المقاهي، والموسيقيين ضمن الأوركسترا وراقصات الباليه في أثناء تمارينهم،  إذ مال لتوضيح وتحديد الأشكال في رسوماته أكثر من كلود مونيه وكاميل بيسارو مستخدمًا فرشاة أكثر سماكة (2,3).

في المقهى-إدغار ديغا- زيت على قماش

هنا

النساء في الفن الانطباعي

لقد كان الرسامون الانطباعيون من الرجال المنشغلين في رسم شخصيات ضمن الفضاء العام للمدينة، مما جعل  بيرت موريزو (Berthe Morisot ) تعمد إلى تصوير حياة النساء الخاصة في المجتمع أواخر القرن التاسع عشر، وكانت أول رسامة انطباعية تُشارك في المعرض الانطباعي، ، لقد  خلقت تراكيبًا غنيةً سَلطت من خلالها الضوء على المجال المنزلي الشخصي بشدة للمجتمع الأنثوي، وشددت على تصوير رابط الأمومة بين الأم وطفلها كما في لوحة  المهد " The Cradle"، تُعد موريزو إحدى الشخصيات الرئيسة في الحركة الانطباعية إلى جانب كل من إيفا غونزاليس( Eva Gonzales) وماري كاسات  (Mary Cassatt ) وماري براكيموند ( Marie Bracquemond).

بدأت ماري كاسات الرسامة الأميركية التي انتقلت إلى باريس عام 1866، بعرض رسوماتها مع الانطباعيين عام 1879، صوّرت من خلال لوحاتها الحياة الخاصة في المنزل لكنها أيضًا قدمت المرأة في المساحات العامة ضمن المدينة الحديثة، وهو واضحٌ في تحفتها الفنية ( في دار الأوبرا) "at the opera "، وتميزت رسوماتها بالعديد من الابتكارات، بما فيها المساحة الثلاثية الأبعاد وتطبيق الألوان الزاهية والصارخة مما بشرَ بتطورات لاحقة في الفن الحديث (2).

في دار الأوبرا-ماري كاسات-زيت على قماش

هنا

تأثير الانطباعية في الفنون الأخرى 

 الانطباعية لم تقتصر فقط على الفنون البصرية، بل تخطتها لتؤثر في أنواعٍ فنية أخرى مثل الموسيقى، كما هو الحال في العمل الرومانسي الحالم لكلود ديبوسي( Claude Debussy) وموريس رافيل (Maurice Ravel )، أيضًا على نحو رئيس في النثر الأدبي، إذ كان الكاتب الفرنسي ( Emile Zola) إميل زولا مدافعًا شغوفًا عن الانطباعية وقد كان واضحًا  في كتاباته، محاولًا إعادة خلق التعقيد الحسي والإدراكي للإنسان، وبالفعل فقد طُرحت رواياته بالمزامنة مع الحقبة الانطباعية (2).

ختامًا، إن التعدد الكبير لأوجه الانطباعية وتنوع المشاركين فيها من الصعب تعريفها، فحياة هذه الحركة كانت عابرة كما الضوء الذي تحاول التقاطه، ومع ذلك، كانت الانطباعية حركة باستمرارية متعاقبة، إذ إن احتضانها للحداثة جعلها نقطةَ انطلاق لما سمي فيما بعد بالفن الرائد في أوروبا (1).

المصادر:

1. Samu M. Impressionism: Art and Modernity [Internet]. The Met Museum. 2004 [cited 2022 Dec 20]. Available from:هنا 
2. Impressionism Movement Overview [Internet]. The Art Story. [cited 2022 Dec 20]. Available from: هنا;
3. Impressionism [Internet]. The National Gallery of Art. [cited 2022 Dec 20]. Available from: 
هنا