الفلسفة وعلم الاجتماع > مصطلحات

ماذا يوجد وراء الفلسفة؟

يمكننا البدء بتوضيح أصل كلمة "فلسفة" أو "Philosophy"، وهي كلمة ذات أصل إغريقي وتعني حب أو دراسة الحكمة، والحكمة كانت تعني لغالبية الفلاسفة القدامى معرفة كيف يعيش الإنسان حياة جيدة (1)، وفي حين يمكننا ذكر التعاريف التي التصقت بالفلسفة كافةً، يكفينا فهمُ الفلسفة على أنها طرح الأسئلة ودراسةُ بنية الأفكار وفهمُ كيفية تكونها وترابطها؛ إذ انشغل الفلاسفة بمحاولة الإجابة على كثير من الأسئلة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: ما الوعي؟ هل الإنسان مُخيَّر أم مُسيَّر؟ لماذا يوجد شيء بدلًا من اللاشيء؟ وما المعرفة (2)؟

ودائمًا ما يتسائل كثيرٌ عن كيفية ممارسة الفلسفة وأهميتها والغرض منها، وفي الحقيقة هذه النوعية من الأسئلة المتعلِّقة بطبيعة الفلسفة تُعدُّ أسئلةً ما وراء فلسفية (Metaphilosophy)، وتهتمُّ ما وراء الفلسفة، أو فلسفة الفلسفة، بدراسة طبيعة أو جوهر الفلسفة، ويمكننا النظر إلى كثير من وجهات النظر الفلسفية على أنها ما وراء فلسفية، إذ إنَّ أيَّ وجهة نظر فلسفية تُلزِم حاملها بشكل أو بآخر بفلسفة ما وراء فلسفية ملائمة لوجهة نظره، فتختلف الفلسفة بناءً على اعتقاد الفيلسوف بالغرض من الفلسفة واقتناعه بطريقة ما بصفتها الأمثل لممارسة الفلسفة، ومن ثمَّ فهو ملزم حكمًا بممارسة نوع من فلسفة الفلسفة على نحو ضمني أو صريح (3).

وربما نسمع أن الفلسفة لا فائدة منها فهي لا تصنع الطائرات ولا تطعم الجائعين، ونستطيع الإجابة بممارسة بسيطة للفلسفة وهي التساؤل عمَّ نقصد بسؤال "ما الفائدة من الفلسفة؟"، فكل من الرياضة والفن والتاريخ وعديد من المجالات والأنشطة البشرية الأخرى لا تخبز الخبز ولا تصنع الطائرات! ولا يقلل ذلك من شأنها أو فائدتها، ويمكننا الإجابة أيضًا بالتأكيد على أهمية الفلسفة بسبب ارتباطها الوثيق بالتطبيق العملي، فأداؤك لعملٍ أو نشاط ما يتأثر بطريقة تفكيرك فيه مباشرةً، وعلى سبيل المثال؛ إيمانك بوجود حياة بعد الموت سيتحكم بشكل أو بآخر بطريقة عيشك لحياتك، وإيمانك بالقضاء والقدر يمكن أن يؤثر في كثير من قراراتك ومشاعرك في الحياة (2).

قبل أن نتحدث عن أنواع ما وراء الفلسفة الرئيسة الموجودة اليوم، لا بد من الإشارة إلى أن دور الفلسفة اختلف على مر التاريخ، فكما ذكرنا سابقًا أن الفلسفة كانت في القدم مرتبطة بمعرفة الطريق إلى الحياة الجيدة، ولكنَّ الفلسفة الأكاديمية اليوم تهتم بالمعرفة على نحو عام، وتبحث خاصةً في كيفية حصولنا على المعرفة، ولم تعد أسئلةٌ من قبيل "ما المغزى من الحياة؟" تُطرح جديًّا، فنحن اليوم نعيش في عصر العلم ولا بد من البرهنة على كل ادعاء حتى يُؤخذ على محمل الجد، ويقدم لنا العلم اليوم كثيرًا من التفاسير المُقنعة عن العالم من حولنا، وأصبح دور الفلسفة اليوم التساؤلُ عن كيفية معرفتنا لما نعرفه، ولكن ما زال الإنسان المعاصر تؤرِّقه الأسئلة التي عُنيت بها الفلسفة قديمًا نفسها، فلا يمكن للعلم أن يخبرنا كيف نعيش حياة جيدة، وهذه الفجوة بين المعرفة العلمية والحكمة تتفاقم كلما تقدمنا علميًّا (1).

أنواع ما وراء الفلسفة الغربية:

وتنقسم ما وراء الفلسفة الغربية اليوم إلى ثلاثة أقسام؛ وهي الفلسفة التحليلية والبراغماتية والقارية، واهتم روادُ الفلسفة التحليلية برتراند راسل (Bertrand Russell 1872-1970) ولودفيغ فيتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein 1889-1951) بمعاينة وتحليل الافتراضات المُسبقة، ما يعطي دورًا مركزيًّا للمنطق، ويهدف إلى الكشف عن البنية العميقة للعالم (3)، وزعم برتراند راسل على سبيل المثال؛ أن قواعد اللغة تكون مضللة فلسفيًّا غالبًا، وأنه ينبغي التعبير عن الأفكار بلغة منطقية واضحة، وبسبب هذا الاهتمام باللغة، يُنظر إلى الفلسفة التحليلية على أنها تَحوَّل نحو اللغة بصفتها موضوعًا للفلسفة، ما يؤدي دورًا جديدًا غير مسبوق في تاريخ الفلسفة، ولهذا السبب، تُعدُّ الفلسفة التحليلية ثورةً فلسفية على الفلسفة التقليدية (4)، كما أن المدرسة التحليلية تنظر إلى تاريخ الفلسفة على أنه تاريخٌ لأخطاء الفلسفة، ولا يُرجى كثيرٌ من دراسته (3).

أما المدرسة البراغماتية؛ فترى أن معنى افتراض أو إيديولوجية ما يكمُن في النتائج العملية لتطبيقها، وأن الأفكار أو الافتراضات غير العملية ينبغي أن تُرفَض، وأثَّرت هذه المدرسة على كثيرٍ من نواحي الحياة الأخرى؛ كالتعليم وعلم الاجتماع والسياسة (5)، فاعتقد جون ديوي (John Dewey 1859-1952) أنه ينبغي تقييم المُثُل والقيم بناءً على عواقبها الاجتماعية، إما بصفتها مثبطات أو أدوات قيِّمة للتقدم الاجتماعي (3). 

ومن جهة أخرى، تسعى الفلسفة القارية نحو الربط بين المعرفة العلمية والوجود الإنساني، فهي أقرب إلى لحياة البشرية وتفاصيلها المحسوسة (1)، ومن روَّادها إدموند هوسرل (Edmund Husserl 1859-1938) الذي اهتم بظواهر الأشياء (Phenomenology) وكيفية ظهورها لنا من دون أيَّ افتراضات مُسبقة، ورأى أن الموضوعية (Objectivism) تُدمِّر الفلسفة ولا يمكنها فهم العقل البشري أو الإنسانية ومكانها في الطبيعة (3)، وتهتم الفلسفة القارية بتاريخ الفلسفة أيضًا وترفض الفصل بينه وبين الفلسفة، وتفترض الفلسفة القارية أنه لا يمكن للبشر أن يستندوا إلى نقطة مرجعية خارج التجربة الإنسانية، وإن وُجِدت هذه النقطة، فلا يمكن للبشر معرفة شيء عنها، وأن التجربة الإنسانية إنسانيةٌ بالكامل، بمعنى أننا نحن من صنعها ويمكننا إعادة صنعها بطريقة أخرى (1).

لعلك عزيزي القارئ، بعد قراءتك لهذا المقال، تشعر بالحيرة تجاه الفلسفة وأسئلتها الكثيرة، فما التيار أو المدرسة الفلسفية الأكثر صحة؟

للإجابة عن ذلك نستطيع الاستعانة بسقراط (Socrates 469- 399 قبل الميلاد) وهو أشهر فيلسوف كلاسيكي، إذ ذكر مرةً أن الشيء الوحيد الذي يعرفه هو أنه لا يعرف شيئًا! وربما من المفيد تشبيه أفكارنا ومفاهيمنا بالنظارات التي نرى من خلالها العالم، وفي الفلسفة؛ تكون النظارة هي نفسها موضوعٌ للدراسة، فلا يتعلق الأمر بمقدار معرفتك في النهاية، بل بمدى صمود هذه المعرفة في وجه النقاش والانتقاد (2).

المصادر:

1- Critchley S. Continental Philosophy: A very short introduction. Oxford: Oxford University Press; 2001.  Available at: هنا;

2- Blackburn S. Think: A compelling introduction to philosophy. Oxford: Oxford University Press; 1999. Available at: هنا;

3- Joll N. Metaphilosophy [Internet]. Internet encyclopedia of philosophy. 2010 [cited 2023Jan28]. Available from: هنا

4- Preston A. Analytic Philosophy [Internet]. Internet encyclopedia of philosophy. [cited 2023Jan28]. Available at: هنا

5- McDermid D. Pragmatic Philosophy [Internet]. Internet encyclopedia of philosophy. [cited 2023Jan28]. Available at: هنا