علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث

هل محبو الموسيقا الحزينة أكثر تعاطفًا من غيرهم؟

جذبَ الاستمتاع بالمشاعر السلبية كالحزن؛ اهتمام الكثير من المجالات العلمية، ومع ذلك تبقى الآلية التحتية لهذه المفارقة غير واضحة. في الاستماع إلى الموسيقا الحزينة، المستمعون يصفون الحزن المحرض بالموسيقا بالممتع. معظم الثقافات لديها نوع خاص من الموسيقا الحزينة، نتعرف إليها من الإشارات الموسيقية البسيطة، رغم عدم معرفة الثقافة بذاتها. يُفسَر الاستمتاع  بالموسيقا الحزينة المألوفة للشخص، على أنه وسيلة لضبط المزاج وملائمته واسترجاع الذكريات، وإن الانجذاب في هذه الحالة لأسباب خارجية لا علاقة لها بالموسيقا ذاتها. إذ يُستمَع إلى الموسيقا المعروفة للاستغراق في الذكريات والشعور بالراحة. تدل التفسيرات السابقة على عدم ارتباط ردة الفعل تجاه الموسيقا بنوع الموسيقا ذاته، إذ إن أي موسيقا مألوفة يمكن أن تحقق الاستجابة. من ناحية أخرى، سُجلَت ردات فعل عاطفية قوية لنوع آخر من الموسيقا، تقترح أن الموسيقا غير المألوفة تؤدي إلى ذرف الدموع وإلى مشاعر إيجابية قوية دون وجود الأسباب الخارجية (1).

كيف يمكن تفسير ردات فعل تجاه الموسيقا لا علاقة لها بالأسباب الخارجية؟ 

اُقتُرِح أن الامتنان الجمالي يؤدي دورًا في ذلك، ويُنسَب الاستمتاع بالحزن المحرَّض بالموسيقا الحزينة؛ إلى تزامن إدراك الحزن والجمال الموجود بالموسيقا.  أظهرتْ الدراسات اختلافات شخصية بين الأفراد في الاستمتاع بالموسيقا الحزينة، وتتعلق الاختلافات بإحساس المتعة وقوة العاطفة، ولها صلة بسمات الشخصية ولا سيما التعاطف (1).

آلية الاستمتاع بالموسيقا الحزينة غير المألوفة والعوامل التحتية المرتبطة بها:

تتضمن الآلية التعاطف وعدوى المشاعر، ويؤدي كلاهما إلى الشعور بالمشاعر المُدرَكة ذاتها. إن التعاطف هو إدراك مصدر ردة الفعل العاطفية للمشاعر المُدرَكة، وإن عدوى المشاعر عملية في اللاوعي تتضمن محاكاة المشاعر المدرَكة وتجسيدها. أظهرت الدراسة أن الموسيقا الحزينة غير المألوفة التي تُعزف على الآلات بدون كلمات، تحرض ردة فعل عاطفية قوية، ولها ثلاث عوامل تحتية: الحزن المريح الذي يوصَف بإحساسٍ بالراحة والكمال والإيجابية، والحزن العصابي الذي يوصف بإحساس بالقلق والخوف والسلبية، والحزن المحرك للمشاعر، الذي استولت فيه حدة التجربة من مشاعر الحزن والتحرك والإعجاب بالحزن المدرك. يشعر الأشخاص بالحزن في حالة الحزن المحرك للمشاعر، لكنه لا يكون ضمن سياق سلبي، المستمعون يعجبون بالحزن المحرك للمشاعر والتجربة ممتعة لهم، على عكس الحزن العصابي، الأفراد في هذه الحالة يشعرون بالقلق وعدم الارتياح بسبب الحزن الموجود في الموسيقا، ولم يُسجَل في الحزن المريح انحياز مهم تجاه مشاعر إيجابية أو سلبية (1).

سمة التعاطف والحزن المحرك للمشاعر: 

رُكِزَ على الحزن المحرّك للمشاعر واستُخدِمَت سمة التعاطف للتنبؤ به واستُخدِم الخيال بوصفه مقياسًا ثانويًّا له. في السابق، رُبط الخيالُ بحبِّ الموسيقا الحزينة، وإن استخدامه للتنبؤ بالحزن المحرك للمشاعر يدل على النزعة للاندماج الروائي والانغماس مع الشخصيات الخيالية وخسران النفس في سياق القصة والتقاط مشاعر الآخرين، ورُبِطَ الحزن المريح  مع ارتفاع التقدير لجودة الحياة، أما الحزن العصابي رُبِطَ سلبياً (1).

هل يمكن إظهار التعابير العاطفية جسديًّا للسيطرة على الآخرين؟ 

أظهرتْ الدراسة أن إظهار المشاعر يكون للتلاعب في سلوك الشخص الآخر المقابل لنا، إذ إن هدف البكاء هو إنهاء العدوانيّة تجاه الفرد وتشجيع الشخص الآخر على التصرف من دون أنانية ولصالح الفرد الباكي، فتغيير  سلوكنا بسبب بكاء شخص أمامنا يزيد من إحساسنا بالفضيلة والعمل على تحسين سمعتنا الاجتماعية والمحافظة عليها. استعراضات الحزن تحفز من تغيير سلوك الآخرين وإحداث الشفقة، والأفراد يستخدمون البكاء عند النجاح لإظهار التواضع أمام الآخرين وتجنب رؤيتهم بوصفهم أشخاصًا مغرورين(2).

أنواع التعاطف:

يجب التفريق بين عدوى المشاعر (التعاطف الحقيقي)، وبين التأثر بالمشاعر (الشفقة)، ففي عدوى المشاعر يلتقط الشخص المشاعر ذاتها التي يعرضها الإنسان المقابل له، أما في التأثر بالمشاعر فالشخص يتأثر بالمشاعر التي يعرضها الإنسان المقابل له، ولكن يتكون لديه مشاعر مختلفة عنها. في أدب التعاطف هناك فرق واضح بين التعاطف الحقيقي والشفقة (2).

الحزن والتأثر بالمشاعر:

المسبب الأول للتأثر بالمشاعر هو الإشارة الأخلاقية، إذ تشير إلى ردة الفعل الفطرية والآلية غير المسيطر عليها. يُبدي الإنسان في العادة قدرة مذهلة على التحكم بعواطفه، حيث يظهرها أو يكبحها. لكن البكاء مختلف، إذ إن المواقف التي تدعونا إلى البكاء وردة الفعل تجاه شخص يبكي تكون خارج سيطرتنا، ودليل على ذلك تأثير الدموع على الرجال، إذ تؤدي إلى انخفاض الرغبة الجنسية والعدوانية لديهم (2).

دور الشفقة في الاستمتاع بالموسيقا الحزينة:

المستمعون المتعاطفون يبدون كلًا من عدوى المشاعر المتعلقة بالمواساة (التعاطف)، والتأثر بالمشاعر (الشفقة) في أثناء الاستماع إلى الموسيقا الحزينة، المستمعون الذين تأخذ التجربة لديهم منحى سلبيًّا محزنًا ومُضيِّقًا للنفس، لديهم ارتفاع في سمة التعاطف من جانب المواساة. أما المستمعون الذين تكون التجربة لديهم ممتعة فلديهم ارتفاع في سمة الاهتمام التعاطفي المتعلق بالشفقة، ومع ارتفاع الخيال تزداد المتعة والانغماس في عالم الموسيقا (2).

هل يمكن رسم خريطة الدماغ التعاطفي؟

تؤدي الموسيقا الحزينة دورَ محرض اجتماعي معقد وقوي لرسم خريطة الدماغ المتعاطف، يُظهِر الرابط بين التعاطف والموسيقا الحزينة الجانبين العاطفي و الإدراكي للتعاطف، تقترح الدراسة أن الموسيقا الحزينة تحرض المتعاطفون على تخيل صور عقلية في أثناء سماعها، وهذا على وفاق مع دليل علاقة الموسيقا الحزينة مع ارتفاع قدرة الأشخاص على الهيام بخيالهم وتشكيل صور خيالية مرئية والانغماس العقلي وتداخل المناطق المركزية للدماغ المشتركة في فهم الحالة العقلية (3).

ركزت الدراسة على أهمية الباحتين الدماغيّتين، البطنية الإنسية الأمام جبهية، والإنسية الحجاجية الأمام جبهية، و تُفعَّلْ هاتان الباحتان بموسيقا غير مألوفة، وُجِدَ دليل على اشتراك الباحة الدماغية الظهرية الإنسية الأمام جبهية وكان لها اتصال وظيفي مع الباحتين السابقتين في إدراك الموسيقا الحزينة، وسُجِلَتْ فعالية في الباحة البصرية الأولية والبطامة والمخيخ (3).

عُرِفَت شبكة في الدماغ تختلف باختلاف سمة التعاطف بين الأفراد و تتفاعل عفويًّا في أثناء الاستماع إلى الموسيقا الحزينة، إذ تحوي مناطق دماغية تعزز تشفير الشفقة والصور العقلية المرئية وفهم الحالة العقلية، واكتشِفَت منطقة جديدة في عائق الدماغ لها علاقة بالاستماع إلى الموسيقا. تضيف الدراسة إلى الفهم المعقد للدماغ المتعاطف وترسم خريطة الديناميكيات العصبية لسمات الشخصية، وتقترح إمكانية استخدام تغايرات الاتصالات في الدماغ بوصفها وسيلةً للتعرف إلى قدرات التعاطف (3).

حقيقة أن الموسيقا لها دور محرض اجتماعي عن طريق إثارة المتعاطفين إلى المرور بتجربة عاطفية معززة وإدراكية؛ تفتح الباب أمام احتمالات جديدة لاستخدام الموسيقا في علم الأعصاب الاجتماعي، وتدل على أهمية التعاطف في سياق تقدير الجمال، وهي قضية نوقِشت من قبل الفلاسفة ولكن تجاهلها علماء الأعصاب (3).

المصادر:

1. Eerola T, Vuoskoski J, Kautiainen H. Being Moved by Unfamiliar Sad Music Is Associated with High Empathy. Frontiers in Psychology [Internet]. 2016 [cited 11 September 2022];7. Available from: هنا

2. Huron D, Vuoskoski J. On the Enjoyment of Sad Music: Pleasurable Compassion Theory and the Role of Trait Empathy. Frontiers in Psychology [Internet]. 2020 [cited 11 September 2022];11. Available from: هنا

3. Taruffi L, Skouras S, Pehrs C, Koelsch S. Trait Empathy Shapes Neural Responses Toward Sad Music. Cognitive, Affective, & Behavioral Neuroscience [Internet]. 2021 [cited 11 September 2022];21(1):231-241. Available from: هنا