الطب > علوم عصبية وطب نفسي

الاستماع إلى صوتنا الداخلي.. هل يمكن أن يساعدنا في حياتنا اليومية؟

لطالما كان الحوار مع الذات جزءًا من التجربة الإنسانية الداخلية، سواءً عند طفل يحاول التعرف إلى عالمه المحيط به أو عند بالغ يحاول تذكر ما تعلمه خلال النهار. إن الشخص الذي نتحدث إليه هو الجانب الآخر من أنفسنا، ويعرف الحوار مع الذات أو الكلام الداخلي "inner speech بالكلام المخفي أو التفكير اللفظي. 

إذ أن له دور مهم بالتطور الإدراكي ومراقبة الكلام والوظيفة التنفيذية وعلم الأمراض النفسية. فهل يمكن أن يكون لاضطراب الكلام الداخلي دورًا في تطور المشكلات النفسية أو التطورية؟

يمكن تعريف الكلام الداخلي على أنه التجربة الذاتية للغة في غياب النطق المسموع والظاهر، وهذا تعريف تبسيطي، فالتجارب من هذا النوع تختلف اختلافًا واسعًا في ظاهرها ومعناها عند الأشخاص وعلاقتها مع الذات وشبهها مع الكلام الخارجي (1).

جرى تجاهل دراسة هذه الظاهرة سابقًا وأحد أسباب حدوث ذلك هو أن الكلام الداخلي بالتعريف لا تمكن ملاحظته ملاحظةً مباشرة، ما أدى إلى محدودية الدراسات التجريبية حوله والحاجة إلى تطوير طرائق لدراسته غير مباشرة.

لكن بالرغم من ذلك، ظهرت نظريات عدة عنه أثبتت اثنتان منها إثباتًا خاصًا أهميتهما في دراسة وظائفه الإدراكية. الأولى متعلقة بدور اللغة في تطور الإدراك والسلوك، والثانية متعلقة بالإعادة والذاكرة العاملة "working memory".

الأولى هي نظرية فايغوتسكي "Vygotsky" للتطور الإدراكي التي صوَّرت تطور التدخل اللفظي على أنه العملية التي من خلالها يصبح الأطفال قادرين على استخدام اللغة لتنظيم سلوكهم، ما يعيد تشكيل الذكاء ما قبل اللغوي باللغة لخلق ما يُسمى بالنظام الوظيفي، أي أن هذه النظرية لا تعتقد أن الكلام الداخلي مجرد لغة تحت لفظية، بل أنه يتبدل تبدلًا كبيرًا ضمن عملية الاندماج "internalization" وتطوره يتضمن انتقال الطفل من الحديث مع نفسه حديثًا علنيًا  مسموعًا أو ما يعرف بظاهرة الكلام الخاص، إلى أن تصبح الحوارات العلنية مع الذات سرية تمامًا وغير مسموعة، ما يشير إلى تطور الكلام الداخلي.

أما النظرية الثانية فتتعلق بدور الكلام الداخلي في الذاكرة العاملة، مصطلح يشير إلى حفظ المعلومات مباشرةً في أثناء القيام بمهمة معقدة، مثل إبقاء مجموعة من الاتجاهات في الذهن خلال التجوال حول مبنى جديد أو التدرب على تذكر قائمة المشتريات. تتألف الذاكرة العاملة من ثلاثة مكونات، أحدها يسمى الحلقة الصوتية "phonological loop"، وهو نظام مسؤول عن تمثيل المعلومات الصوتية واللفظية والسمعية مكون من قسمين: الأول منفعل يُسمى المخزن الصوتي، والثاني آلية تدرب فعال تستخدم عمليات التخطيط الكلامية غير المباشرة أو بمعنى آخر الكلام الداخلي. وقد تبين أن إشغال النطق بمهمة منفصلة (مثل تكرار أيام الأسبوع) قد أدى إلى إعاقة تذكر البيانات اللفظية.

تحصر مقاربة الذاكرة العاملة نفسها بصورة كبيرة بأسئلة كالتساؤل عن ضرورة  

الكلام الداخلي (مثل التدرب اللفظي وإعادة التشفير) في حين تصف مقاربة فايغوتسكي الاستخدام العرضي للكلام الداخلي بوصفه أداة لتحسين وظائف إدراكية قيد التطور وتحويلها (1).

طرأت العديد من التطورات على طرائق دراسة الكلام الداخلي، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بعضها يعتمد على تشجيعه ودراسة تأثيراته، وبعضها الآخر يثبط حدوثه ثم يلاحظ العمليات الأخرى التي قد تتأثر بذلك. كما اعتمدت بعض التقنيات على التقاط عمليات الكلام الداخلي التقاطًا عفويًا خلال الحياة اليومية. تمثل طريقتا الاستبيانات ومعاينة التجربة أهم طرائق دراسة الكلام اللفظي حاليًا.

المقاربة الأبسط هي الاستبيانات، التي تعتمد على قيام الأشخاص بالإبلاغ مباشرة عند حدوث الكلام الداخلي، وهي مفيدة إفادة خاصة لدراسة تكراره وخصائص ظهوره، على الرغم من أن مصداقيتها موضع شك.

أما طريقة معاينة التجربة فتهدف إلى إجراء تقييم لحظي للكلام الداخلي باختيار عشوائي، وهذا يُجنب المشاركين الحاجة للحكم العام على مدى كلامهم الداخلي وطبيعته كما هو الحال في الاستبيانات، إذ عادة ما يُركَّز فقط على محتوى التجربة اللحظي عند تنبيه عشوائي (كالصفارة). أحد أشكال هذه الطريقة، يُطلَق عليها اسم معاينة التجربة الوصفية  descriptive experience sampling أو DES إذ يحمل المشاركون جهازًا في أثناء ممارسة نشاطاتهم اليومية المعتادة، وعندما يصدر صوت تنبيه فيجب عليهم أن يضبطوا ما كان يدور بذهنهم قبل الصوت مباشرة، ثم يسجلون ملاحظات مختصرة ثم تُستخلَص المعلومات بمقابلة مفصلة (1).

الطريقة الأخيرة هي التصوير العصبي الوظيفي وعلم النفس العصبي، وتُستخدم لفحص الأسس العصبية للكلام الداخلي. وقد أظهرت إحدى الدراسات أنه يمكن زيادة المصداقية بدمج طريقة DES مع الرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI، عندما كشفت مقابلة DES عن حدوث كلام داخلي، أظهر عندها fMRI حدوث تفعيل لمناطق عمليات الكلام الكلاسيكية. كما أن هذا الدمج مع بيانات fMRI أكد مصداقية ملاحظات DES للمشاركين عن التفريق التجريبي بين الكلام الداخلي وسماع صوت الذات داخليًا (2,1).

يتضح دور الكلام الداخلي في التطور الإدراكي عند الأطفال ببروز ظاهرة التشابه الصوتي بعمر7 سنوات تقريبًا نتيجة للتغيرات التدريجية في مهارة التذكر الكلية، فقد وُجِد دليل على هذه الظاهرة عند عرض صور متشابهة صوتيًا للأطفال، مما جعل تذكرها أصعب مما لو كانت غير متشابهة صوتيًا، ذلك بسبب تداخل الكلمات التي تشبه بعضها، فالأطفال بعمر 7 أو أكثر كانوا أكثر قدرة على إنجاز هذه المهمة ممن هم أصغر منهم (1).

بصرف النظر عما إذا كان استخدام الأطفال للكلام الداخلي يمر بتغير نوعي بين مرحلتي الطفولة الباكرة والمتوسطة، فإن له دور ظاهر متزايد في دعم العمليات الإدراكية في هذه المرحلة التطورية، إذ يوجد دليل على أن استخدامه يشكل استراتيجية مهمة للتبديل بين المهام switching tasks في أثناء الطفولة (1).

بينت الدراسات العصبية التطورية أن البشر يمتلكون سبيل لغة ظهريًا dorsal language stream منذ الولادة غير مكتمل التطور عندهم، لكنه ينضج خلال مرحلة الطفولة الباكرة، وأن تطور هذا السبيل مرتبط بشدة بتطور الكلام الداخلي (3).

عند البالغين، دُرِس الكلام الداخلي دراسة أساسية بوصفه أداة إدراكية داعمة للذاكرة والعمليات الإدراكية المعقدة الأخرى، وقد يُعد استخدام الكلام الداخلي أداة تدريب في الذاكرة العاملة أكثر وظيفة معروفة له، إذ أن التدريب اللفظي يمكن أن يحسن مسار الذاكرة تحسينًا مستمرًا، بحال عدم وجود تثبيط نطق، وهذا يمكن أن يقود لتذكر أفضل. وحتى بحالة تثبيط النطق، وُجِدت أدلة على أن المخزن الصوتي يمكن أن يحافظ على بعض المعلومات الصوتية، على الرغم من حالة التداخل والانحلال. قد يزيل التثبيط الصوتي أيضًا طول الكلمة word-length وظاهرة التشابه الصوتي، ذلك خاصة بحالة التدريب اللفظي. وفيما يتعلق بالتبديل بين المهام، يسهل الكلام الداخلي التنقل بينها من خلال عمله بوصفه تلميحًا متعلقًا بالذاكرة عن كيفية الاستجابة في حال عدم وجود هكذا تلميح ضمن المهمة نفسها (1).

لوحظ أيضًا أن الكلام الداخلي له دور هام في القراءة الصامتة، إذ يَحثُّ على التخيل الصوتي للكلام في أثناء القراءة، ويوجد دليل على أنه يكتسب بعض خصائصه من الكلام الخارجي المسموع.

بالإضافة لكل ذلك، توجد عدة أدوار مهمة أخرى للحديث الداخلي، كالتحكم بالسلوك والتحفيز وتحسين الأداء وتعزيز الثقة بالنفس وتخفيف القلق (1).

يختلف الكلام الداخلي عند الأشخاص الذين يعانون اضطرابات تطورية (1)، فالأطفال المصابون بالتوحد لا يستخدمون الدرجة نفسها من الكلام الداخلي ولا يحصلون بالتالي على الفعالية نفسها التي يحصل عليها الأطفال ذوو التطور الطبيعي عند تأديتهم لمهام تنفيذية (4). إن توصيف هذا الاختلاف يزيد من احتمال إيجاد طرائق تعليم وتدريب تفيد من لديهم صعوبات إدراكية وسلوكية وهذه الطرائق بدورها يجب أن تركز على تحسين مهارات الكلام الداخلي لتوفير دعم إدراكي طوال حياتهم (5).

توجد اختلافات شخصية في تواتر استخدام الكلام الداخلي، جرى دراستها مع أسباب حدوثها وعلاقتها بالعوامل الإدراكية (الوظيفة التنفيذية والتفكير المعقد) وغير الإدراكية (صفتي القلق والاندفاع) من خلال تقييم وظائف الكلام الداخلي التالية: النقد الذاتي والدعم الذاتي والتنظيم الذاتي والتقييم الاجتماعي. أظهرت النتائج أن القلق والاندفاع كانا متعلقين بتواتر الوظيفة العاطفية للكلام الداخلي (النقد الذاتي والدعم الذاتي) في حين تعلق كل من الوظيفة التنفيذية والتفكير المعقد بتواتر وظيفة الإدراك والتنظيم الذاتي للكلام الداخلي (7,6).

المصادر:

1. Alderson-Day B, Fernyhough C. Inner speech: Development, cognitive functions, phenomenology, and neurobiology. Psychological Bulletin [Internet]. 2015 [cited 6 September 2022];141(5):931-965. PMCID: PMC4538954. PMID: 26011789. Available from: هنا

2. Kühn S, Fernyhough C, Alderson-Day B, Hurlburt R. Inner experience in the scanner: can high fidelity apprehensions of inner experience be integrated with fMRI?. Frontiers in Psychology [Internet]. 2014 [cited 6 September 2022];5:1393. PMCID: PMC4260673. PMID: 25538649. Available from: هنا

3. Geva S, Fernyhough C. A Penny for Your Thoughts: Children’s Inner Speech and Its Neuro-Development. Frontiers in Psychology [Internet]. 2019 [cited 6 September 2022];10:1708. PMCID: PMC6702515. PMID: 31474897. Available from: هنا

4. Russell-Smith S, Comerford B, Maybery M, Whitehouse A. Brief Report: Further Evidence for a Link Between Inner Speech Limitations and Executive Function in High-Functioning Children with Autism Spectrum Disorders. Journal of Autism and Developmental Disorders [Internet]. 2013 [cited 6 September 2022];44(5):1236-1243. 

 PMID: 24197114. Available from: هنا

5. Granato G, Borghi A, Mattera A, Baldassarre G. A computational model of inner speech supporting flexible goal-directed behaviour in Autism. Scientific Reports [Internet]. 2022 [cited 6 September 2022];12(1): 14198. PMCID: PMC9392752. PMID: 35987942. Available from: هنا

6. Ren X, Wang T, Jarrold C. Individual Differences in Frequency of Inner Speech: Differential Relations with Cognitive and Non-cognitive Factors. Frontiers in Psychology [Internet]. 2016 [cited 6 September 2022];7:1675. PMCID: PMC5089968. PMID: 27853439. Available from: هنا

7. McCarthy-Jones S, Fernyhough C. The varieties of inner speech: Links between quality of inner speech and psychopathological variables in a sample of young adults. Consciousness and Cognition [Internet]. 2011 [cited 6 September 2022];20(4):1586-1593. PMID: 21880511. Available from: هنا