الفنون البصرية > فن المسرح

المسرح في القرون الوسطى: المسرح الديني

لعلّ السبب في اضمحلال المسرح الروماني يعود إلى سببين رئيسين:

لقد نظر رجال الدين المسيحي إلى المسرح على أنه من التقاليد الوثنية، وخطرٌ على الأخلاق ومفسدةٌ للشباب، ومما زاد كراهيتهم للمسرح  أنّ بعض الممثلين الوثنيين كانوا يمثلون بعض الكوميديات في موضوع المسيحية ورجالها ،ولكنّ المسيحيين لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا إلا بعد أن تبنت الدولة المسيحية رسميًّا، حينئذ استطاعوا استصدار أمٍر يُحرم المسرح، مما أدى إلى محاربة هذا الفن وملاحقة العاملين فيه حتى اختفى المسرح الراقي، ولم يتبق من هذا الفن إلا بعض عروض المايم (mimus-التمثيل الهزلي الصامت) التي لم تكن تقدم في المسارح بل في قصور الأغنياء وكبار رجال الدولة (1-3). 

في مرحلة لاحقة منعت الكنيسة مثل هذه العروض مما اضطر الممثلين إلى البحث عن مهنٍ أخرى، ولكن بعض الفرق المسرحية المكونة من ممثلين أو ثلاثة ظلّت تقدم فنها الساخر متنقلة من قرية إلى أخرى بعيدًاعن أنظار السلطات الرسميّة (1-4).

ومضت عدة قرون على غياب المسرح. ولكنه عاد إلى الظهور من جديد في القرون الوسطى، وكانت الكنيسة المسيحية سببًا في عودته ونهوضه من جديد ليعيد التاريخ نفسه ويكون الدين باعثٌ للمسرح من جديد. فقد أراد بعض الرهبان والقساوسة أن يؤثروا في الناس لإدخال الإيمان إلى قلوبهم، ففكروا في استخدام التمثيل تحقيقًا لغرضهم الديني، فأخذوا من الكتاب المقدس أو من سير القديسين قطعًا جعلوها تمثيلية ومثلوها أمام جمهور الكنيسة، وكان مذبح الكنيسة المكان الذي تقدم فيه هذه المقطوعات (1-3).

من المؤكد نحن لا نعرف الخطوات الأولى التي مرّ بها هذا اللون المسرحي الجديد، وكيف نشأ وتطور. ولعلّ أقدم إشارة وصلت إلينا هي ما كتبه الراهب الإنجليزي سان اتيلولد في نهايات القرن العاشر الميلادي حين تحدث عن عيد الفصح، فذكر كيف كانوا يمثلون دفن السيد المسيح، وكيف أقيم قبر بجانب المذبح، ثم يتقدم قسيسان يحملان صليبًا لُفُّ بقطعةٍ من قماش ويدفنانه في القبر مع تراتيل الأناشيد الدينية. هذه حركة مسرحية خالصة مثلها القساوسة تصويرًا لناحية خاصة من سيرة السيد المسيح. وفي بعض البلاد الأخرى، مثل فرنسا وإيطاليا، أُضيفت مشاهد أخرى على هذه المسرحية، إذ تطورت إلى حادثة مسرحية متكاملة، ثم أضيفت إليها بعد ذلك مسرحية (آلام المسيح) التي تنسب إلى شخصٍ اسمه غريغوري وهكذا بدأت المشاهد المسرحية الدينية تظهر الواحد تلو يكتبها ويمثلها رجال دين، كما كانت تقدم في الكنيسة في بعض المناسبات والأعياد الدينية (1-3). 

ويمكن بشكل عام تصنيف المسرحيات الدينية التي كانت تقدم في القرون الوسطى في ثلاثة أنواع هي:

  1. مسرحيات الأسرار. 
  2. مسرحيات المعجزات. 
  3. المسرحيات الأخلاقية (1-3). 

مسرحيات الأسرار (Mystery):

    لا يزال المؤرخون عاجزين عن معرفة التطور الذي أدى إلى ظهور هذا اللون من المسرحيات، ولا يزالون يجهلون خصائص مسرحيات الأسرار، ولكن كل الذي وصل إلينا يدل على أنها أخذت من قصص (الكتاب المقدس)، وهي بالتالي تعرض لنا حياة السيد المسيح، وبعض الحواريين والأنبياء السابقين، وبعض الأحداث الواردة في (الكتاب المقدس)، - وهذا ما جعلها متشابهة عند مختلف الشعوب الأوروبية- فهي مسرحيات قريبة من التاريخ، ولكن الحقائق التاريخية فيها اتجهت اتجاهات رمزية، إذ أوُلت الحوادث التاريخية تأويلاً خاصاً فأصبح أشخاص التاريخ رمزاً على مُثُل، فـ مريم المجدلية في هذه المسرحيات لم تكن امرأة بعينها عُرفت في التاريخ بهذا الاسم، إنما هي رمز للخطيئة التائبة، والآلام التي عاناها وتحملها السيد المسيح هي رمز تكفير عن ذنوب البشر. وهكذا فالاتجاه الرمزي كان واضحاً في هذه المسرحيات. وقد أعدت هذه المسرحيات للوعظ والإرشاد.

وفي مرحلة لاحقة اتخذ مؤلفوا هذه المسرحيات أسلوب التشويق حيناً وأسلوب الإثارة حيناً آخر، فأدخلوا في بناء المسرحيات بعض المشاهد الفكاهية، وبعض الصور الواقعية. ومما لا شك فيه أن دخول هذه العناصر الجديدة يُعد تطوراً طبيعياً، وربما كان القائمون بهذا التطور هم جماعة هواة المسرح الذين فكروا في أساليب جديدة لإثارة المشاهدين وتحقيق المتعة لهم.   

من الموضوعات التي عالجتها مسرحيات الأسرار في القرون الوسطى (سقوط الشيطان)، (آلام السيد المسيح وصلبه)، (العشاء الأخير) وغيرها.. (1-3).

مسرحيات المعجزات (Miracle):

     لا تختلف مسرحيات المعجزات عن مسرحيات الأسرار إلا من ناحية المصدر الذي أُخذت عنه، وهناك كثير من الباحثين يدمجون بين هذين النوعين بسبب تشابههما الذي يكاد يصل حدّ التطابق. 

فبينما كانت مسرحيات الأسرار تعتمد في موضوعاتها على مصدر واحد هو قصص (الكتاب المقدس)، فإن مسرحيات المعجزات اعتمدت في مصادرها على حياة وسير القديسين الذين عاشوا بعد رحيل السيد المسيح، وغالبًا ما تركز هذه المسرحيات على عرض المعجزات المنسوبة لهؤلاء القديسين. أما من ناحية مؤلفي هذه المسرحيات وممثليها ومكان تقديمها ينطبق عليها تمامًا ما ورد ذكره بالنسبة لمسرحيات الأسرار. ومن أقدم مسرحيات المعجزات التي وصلتنا مسرحية (سان كاترين)، وهي مسرحية إنجليزية يرجع تاريخها إلى القرن الثاني عشر الميلادي. ومن فرنسا وصلت إلينا مسرحية (القديس نيكولا) ومؤلفها هو "جان بوديل" المتوفى سنة  1210م.

  عمومًا، يمكننا القول أن معظم تلك المسرحيات كانت مجهولة المؤلف، ولم تكن تخلو من الفكاهة في أغلب الأحيان، مما يومئ إلى الابتعاد التدريجي للفن المسرحي عن المضمون الديني الصرف. إلا أن الموضوعات الدنيوية كانت بطيئة في ظهورها، وقد شقت طريقها ضمن الفن المسرحي عبر نوعٍ جديد من المسرحيات الدينية ونصف الدينية هي المسرحيات الأخلاقية (1,2).

المسرحية الأخلاقية (Morality):

  كانت مسرحيات الأسرار سببًا في وجود لون آخر من المسرحيات أطلق عليها المؤرخون اسم المسرحيات الأخلاقية. وإن كانت شخصيات مسرحيات الأسرار والمعجزات مأخوذة من (الكتاب المقدس) وحياة القديسين، فإن الأمر مختلف تمامًا في المسرحيات الأخلاقية لأن الشخوص فيها مجردة، أكثرها يمثل لونًا من ألوان الفضائل أو الرذائل مثل العفة، الكرم، الغرور، الخطيئة، إلى آخره... وكل المسرحيات الأخلاقية تشترك في وجود شخصية الإنسان بصفاته المثالية، وهذه الشخصية ترمز إلى الإنسانية عمومًا ولا تحدد شخصًا بذاته، إذ غلب على المسرحيات هذا اللون من المواعظ التي طغت على المواقف الدرامية، ولعلّ السبب أن هذه المسرحيات حاولت تقديم درس أخلاقي عن طريق قصة رمزية. وكان الكتّاب يتخذون موضوعاتهم من الحياة المحيطة بهم. وتُعد مسرحية كل إنسان (Every man) مثالًا رائعًا للمسرحيات الأخلاقية.

بدايةً، دعت هذه المسرحيات إلى الإصلاح عن طريق اتباع التعاليم الدينية، إلا أنها في مرحلةٍ لاحقة دعت إلى إصلاح العيوب عن طريق اكتساب الحكمة. وقد كان للتعاليم الدينية حضورها الواضح في هذه المسرحيات، لكن التأكيد كان على قيمة التجربة. 

 في فرنسا كانت المسرحيات الأخلاقية أسرع إلى التطور نحو المسرحيات الدنيوية، فنرى الكتّاب الفرنسيين يضعون لشخوصهم أسماء مشابهة للأسماء في الحياة اليومية، كما في مسرحية (الفتاة القروية) (1,2).

وسرعان ما تطورت المسرحيات الأخلاقية في أواخر القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة الأوروبية، فمن قلب المسرحية الأخلاقية بتشخيصها التعليميّ للرذائل والفضائل، نمت المسرحية الأقصر المسماة "إنترلود" (Interlude). وعادة ما كانت هذه المسرحية تنهل موضوعاتها من الحياة العامة، وبالتالي فهي تتضمن شخصيات مختلفة الأنماط والمهن (1,2)، ويترافق الحوار المرح الدائر بينهم بحركات هزلية تصل إلى حدّ التهريج. وتجلّت قيمة مسرحية الإنترلود بوضوحٍ عندما تفككت عناصرها لتكوّن مركبات درامية جديدة مكونةً المسرحيات الدنيوية التي ترافقَ ظهورها- بعد فترة وجيزة- مع انطلاق عصر النهضة الأوروبية (1).

وفيما يلي فيديو لمدينة ألمانية ما زالت محافظة على طقس مسرحية آلام المسيح والتي يتم عرضها كل 10 سنين:

هنا

المصادر:

1. حسين م. من الأدب المسرحي في العصور القديمة والوسطى. الطبعة الأولى. بيروت: دار الثقافة؛ 1960. 

2. Nicoll A. المسرحية العالمية. الطبعة الأولى. القاهرة: هلا للنشر والتوزيع؛ 2000.

3. صدقي ع. المسرح في العصور الوسطى:الديني والهزلي. الطبعة الأولى. مصر: دار الكتاب العربي؛ 1969.

4. Medieval Theatre - Google Arts & Culture [Internet]. Google Arts & Culture. [cited 9 June 2022]. Available from: هنا