اللغة العربية وآدابها > دراسات في اللغة والأدب

رثاء الملوك عند الشعراء العرب

الرثاء من الموضوعات البارزة في شعرنا؛ إذ لطالما بكى شعراؤنا مَن رحلوا عنهم، وهو بكاء يتعمق في القدم منذ وُجد الإنسان ووجد أمامه هذا المصير المحزن.

ولكل أمة مراثيها والأمة العربية من الأمم التي تحتفظ بتراثٍ ضخم من المراثي، وهي تأخذ عندها ألوانًا ثلاثة هي (الندب والتأبين والعزاء):

أما الندب: فبكاء الأهل والأقارب ومَن ينزل في منزلتهم في نَفْس الشاعر، تسيل كلماته عليهم حين يعصف بهم الموت كما تسيل من جروح لا ترقأ في القلوب والأفئدة (1).

كما في مرثية الحارث بن عباد ابنَه جبير، يقول:

قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي

                          لَقِحَت حَربُ وائِلٍ عَن حِيالِ

قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي

                          لَيسَ قَولي يرادُ لَكِن فعالي

قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّ

                          يجَدَّ نَوحُ النِساءِ بِالإِعوالِ

قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي

                          شابَ رَأسي وَأَنكَرَتني القَوالي

قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي

                          لِلسُرى وَالغُدُوِّ وَالآصالِ

قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي

                          طالَ لَيلي عَلى اللَيالي الطِوالِ (2)

وليس التأبين نواحًا ولا نشيجًا على هذا النحو، بل هو أدنى إلى الثناء منه إلى الحزن الخالص، فيشيد بالشعراء بالفقيد منوهين بمنزلته السياسية أو العلمية أو الأدبية (1).

وأصل التأبين الثناء على شخصٍ حيًّا أو ميْتًا، ثم اقتصر استخدامه على الموتى فقط؛ إذ كان من عادة العرب في الجاهلية أن يقفوا على قبر الميْت، فيذكروا مناقبه ويعددوا فضائله ويشهروا محامده، وكأنما غرضهم من التأبين أن يصوروا تصويرًا تامًّا مدى الخسارة والمصيبة في الفقيد، ونرى هذا واضحًا في تأبين الخنساء أخويها صخرًا ومعاوية فهي تندبهما بقلبٍ محترق من جهة، وتؤبّنهما لتصور فضائلهما، وتوضح خسارة القبيلة فيهما:

قَذىً بِعَينِكِ أَم بِالعَينِ عُوّارُ

                          أَم ذَرَفَت إِذ خَلَت مِن أَهلِها الدارُ

كَأَنَّ عَيني لِذِكراهُ إِذا خَطَرَت

                          فَيضٌ يَسيلُ عَلى الخَدَّينِ مِدرارُ

تَبكي لِصَخرٍ هِيَ العَبرى وَقَد وَلَهَت

                          وَدونَهُ مِن جَديدِ التُربِ أَستارُ

تَبكي خُناسٌ فَما تَنفَكُّ ما عَمَرَت

                          لَها عَلَيهِ رَنينٌ وَهيَ مِفتارُ

تَبكي خُناسٌ عَلى صَخرٍ وَحُقَّ لَها

                          إِذ رابَها الدَهرُ إِنَّ الدَهرَ ضَرّارُ

وَإِنَّ صَخرًا لَوالِينا وَسَيِّدُنا

                          وَإِنَّ صَخرًا إِذا نَشتو لَنَحّارُ

وَإِنَّ صَخرًا لَمِقدامٌ إِذا رَكِبوا

                          وَإِنَّ صَخرًا إِذا جاعوا لَعَقّارُ

وَإِنَّ صَخرًا لَتَأتَمَّ الهُداةُ بِهِ

                          كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأسِهِ نارُ

جَلدٌ جَميلُ المُحَيّا كامِلٌ وَرِعٌ

                          وَلِلحُروبِ غَداةَ الرَوعِ مِسعارُ

حَمّالُ أَلوِيَةٍ هَبّاطُ أَودِيَةٍ

                          شَهّادُ أَندِيَةٍ لِلجَيشِ جَرّارُ

نَحّارُ راغِيَةٍ مِلجاءُ طاغِيَةٍ

                          فَكّاكُ عانِيَةٍ لِلعَظمِ جَبّارُ (1)

والعزاء مرتبةٌ عقلية فوق مرتبة التأبين؛ إذ يُرى الشاعر ينفذ من حادثة الموت الفردية التي هو بصددها إلى التفكير بحادثة الموت والحياة، وقد ينتهي به هذا التفكير إلى معانٍ فلسفية عميقة، فإذا بنا نجوب معه في فلسفة الوجود والعدم والخلود، ومردُّ هذا كله أن الحياة ظل لا يدوم (1).

قال أبو العلاء المعري:

غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي

                        نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ

وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعيّ إذا قِي

                       سَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أمْ غَنْ

                       نَت عَلى فَرْعِ غُصْنِها المَيّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْ

                        بَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ

خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ ال

                        أرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ (3)

ولا نرتاب في أن الرثاء بدأ عندهم كما بدأ في كثيرٍ من الأمم بصورة تشبه أن تكون سحرًا حتى يطمئن المَيْتُ في مرقده، ولا تصيب روحُه الأحياءَ، ثم أخذ يفقد هذه الغاية مع الزمن، وما زال حتى انتهى إلى الصور الجاهلية من الإفصاح إلى إحساس الناس العميق بالحزن قِبَل الموتى ومحاولة ذكراهم بتمجيدهم وبيان فضائلهم التي ماتت بموتهم مع التفكير بالقدر وقصور الناس أمامه وعبثه بهم ولعبه بحياتهم وموتهم. 

● من ذلك قول عبدة بن الطيب: 

فلم يكُ قيسٌ هلكُه هلْكُ واحدٍ 

                        ولكنْ بُنيانُ قومٍ تهدّما (4)

● وقول التيمي في منصور بن زياد:

عَمّتْ فواضلُهُ فَعَمَّ مُصَابُهُ

                        فالناسُ فيه كلهم مأجورُ

ردتْ صنائعُهُ عليهِ حياتَه

                        فكأنّه من نشرها منشورُ (5)

● وقول أشجع السُّلمي:

وما كنتُ أدري ما فواضلُ كفِّه 

                     على الناسِ، حتى غيّبتْهُ الصفائحُ

فأصبَحَ في لَحْدٍ منَ الأرضِ ميْتًا

                      وكانتْ بهِ حيًّا تديق الصحاصحُ (4)

الصحاصح: الفيافي، أو الأراضي، فلشدة جوده داقت به الفيافي ومن الإحسان والإنعام في حياته.

وقد يكون أقدم صور الرثاء عندهم ما نُقش على قبور الأقيال والأذواء في اليمن والأمراء في الحيرة وعند الغساسنة في الشام، فعلى قبورهم كانوا يكتبون أسماءهم وألقابهم تخليدًا لذكراهم وتمجيدًا لأعمالهم (1).

فالصورة الجاهلية صورةٌ معقدة لا بما فيها من طول فحسب بل بما فيها من وسائل فنية كثيرة؛ إذ نرى شعراء الرثاء يهتمون بقوالب رثائهم وصيغته وينوعونها تنويعًا واسعًا كما يهتمون بصورهم واستعاراتهم (1).

ونجد ذلك جليًّا في جزئيات القصيدة المطولة كاملةً حتى تتعدى رمزيات مشهد الحيوان التي لم تخلو مراثي الجاهليين والإسلاميين من ذكره، فكل صورة لأي حيوان تبث الشجا وتبعث على الحزن، وتشارك في أثر الفقد عند أهل المصاب وعند الراثي، وكان المهلهل قد سبق إلى هذا في مراثيه التي رثى بها أخاه، فصورة الناقة _غالبًا_ إما أن تكون مادةً تبرز كرم المرثي، أو مادة للمشاركة في الحزن لتسلية الهم وبعث التصبر في النفس الكسيرة (6).

وليس بين الرثاء والمدح فرق، إلا أن الشاعر يخلط بالرثاء شيئًا يدل على أن المقصود به ميْتٌ، وسبيل الرثاء أن يكون ظاهر التفجع، بيّنَ الحسرةِ، مخلوطًا بالتلهف والأسف والاستعظام إذا كان الميت ملكًا أو رئيسًا كبيرًا (7)، كما قال النابغة في حصن بن حذيفة بن بدر:

يَقولونَ حِصنٌ ثُمَّ تَأبى نُفوسُهُم

                              وَكَيفَ بِحِصنٍ وَالجِبالُ جُموحُ

وَلَم تَلفِظِ المَوتى القُبورُ وَلَم تَزَل

                               نُجومُ السَماءِ وَالأَديمُ صَحيحُ (7)

وهذا وما شاكله رثاء الملوك والرؤساء الجلة، وإلى هذا المعنى ذهب أبو العتاهية حين قال: "مات الخليفةُ أيها الثّقلان"، فرفع الناس رؤوسهم وفتحوا عيونهم وقالوا: نعاه إلى الجن والإنس (7).

ولم يكتفِ الشعراء برثاء الحكام بل راحوا يرثون وزراءهم وامتد ذلك إلى عصرنا الحديث واحتل مكانًا بارزًا في شعر حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، وللأخير قصيدة في رثاء مصطفى فهمي أحد رؤساء الوزارة المصرية، يقول فيها:

يا أَيُّها الناعي أَبا الوُزَراءِ

                          هَذا أَوانُ جَلائِلِ الأَنباءِ

حُثَّ البَريدَ مَشارِقًا وَمَغارِبًا

                          وَاِركَب جَناحَ البَرقِ في الأَرجاءِ

وَاِستَبكِ هَذا الناسَ دَمعًا أَو دَمًا

                          فَاليَومُ يَومُ مَدامِعٍ وَدِماءِ

ذَهَبَت عَلى أَثَرِ المُشَيَّعِ دَولَةٌ

                          بِرِجالِها وَكَرائِمِ الأَشياءِ (1)

نقف ختامًا مع مرثية عمر أبو ريشة سعدَ الله الجابري:

هيكل الخلد لا عدتك العوادي

                          أنت إرثُ الأمجاد للأمجاد

منك هَبت سُمر الرجال وأدمت

                          حاجب الشمس بالقنا المياد

والمروءات كلُ ما حملتها البيد

                          في طول سيرها من زاد

هتفت بالجهاد حتى تشظى

                          كل تاج على صخور الجهاد

هيكل الخلد جئت اسكب

                          نجواك رؤىً في محاجر الآباد

في محاريبك الوضيئة تغفو

                          كبرياء الآباء والأجداد (8)

المصدر:

1. ضيف شوقي. الرثاء. الطبعة الرابعة. القاهرة: دار المعارف؛ 1987. ص5_7, 54_57

2. الأصمعي أبو سعيد عبد الملك بن قريب. الأصمعيات. الطبعة السابعة. القاهرة: دار المعارف؛ 1993. ص71

3. المجذوب عبد الله بن الطيب. المرشد إلى فهم أشعار العرب. الكويت: دار الآثار الإسلامية؛ 1989. ج2 ص265

4. ابن قتيبة الدِّينَوَرِيُّ عبد الله بن عبد المجيد. الشعر والشعراء. تحقيق: عبد الرحيم قمحية. الطبعة الثانية. القاهرة، مصر: دار الحديث؛ 1998. ج2 ص272,273,881

5. النيرماني أبو سعد علي بن محمد بن خلف. المنثور البهائي. تحقيق: د علي كردي. الطبعة الأولى. دمشق: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب؛ 2013. ص294

6. جمعة حسين. قصيدة الرثاء (جذور وأطوار). الطبعة الثانية. دمشق: دار النمير؛ 2017. ص192_194

7. ابن رشيق القيرواني الأزدي الحسن. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد. الطبعة الخامسة. بيروت: دار الجيل؛ 1979. ج2 ص147

8. ديوان عمر أبو ريشة. الطبعة الأولى. بيروت: دار العودة. 1998. ج1 ص 484