الفنون البصرية > فلسفة الفن

هل للفن أي دور يذكر في المستشفيات؟

المستشفى هو المكان الذي نواجه فيه المعاناة والألم، والمكان الذي نُصارع فيه الحياة والكرامة الإنسانية. إضافةََ إلى الجانب التقني والعلمي الذي يقوم عليه عمل المستشفى هناك جانب آخر؛ وهو الجانب الروحي، يتجسد من خلال الأشكال وتفاصيلها التي تراها أعيُننا والإضاءة والألوان وعناصر من الطبيعة والفن كل منها وحدات متغيرة تعكس مميزات تتكون من خلالها طبيعة المكان الذي من واجبه تحقيق الشفاء النفسي والروحي والجسدي (1).

الأعمال الفنية ودمجها في مساحة المستشفى لطالما كان موضوعًا يثير اهتمام الباحثين، فقد تزايد الجدل عن أهمية وجود الفن في دُور الرعاية الصحية في السنوات الأخيرة، وأظهرت عدة من الدراسات أن جودة البيئة المرئية يمكن أن تؤثر في مستخدمي هذه البيئة المكانية تأثيرًا إيجابيًّا، ويُمكن للأعمال الفنية في المستشفيات التأثير في طاقم العمل وعلى سيرورة تعافي المرضى. أظهرت دراسة نشرتها (Informa UK Limited) وتداولها باسم (Taylor & Francis Group)، إذ يُعد الأخير أحد رواد نشر الأبحاث العلمية عالميًا، أن الفن يسهم إسهامًا فعالًا في إنشاء بيئة يشعر فيها المرضى بالأمان وتعزز قدرتهم على التفاعل مع الآخرين والحفاظ على اتصالهم بالعالم الخارجي (1,2).

يمكن تتبع تقاليد دمج الفن في المستشفيات منذ زمن بعيد عندما انبثقت المستشفيات من نُزلٍ كانت تُديرها الكنيسة وتستعمل من أجل مبيت الحجاج والمسافرين، ومستوصفات للمرضى وكبار السن. تُلاحظ الأهمية المنسوبة للفن سابقًا من خلال الأعمال الفنية لرواد الفن في تلك الحقبة، الذين كُلِّفوا بإنجاز أعمال فنية للمستشفيات، مثل بييرو ديلا فرانشيسكا ( Piero della Francesca) في سانسيبولكرو (Sansepolcro)، وهانس ميملينج (Hans Memling) في براغ (Bruges)، وفينسنت فان جوخ (Vincent van Gogh) في سان ريمي دي بروفانس (Saint-Rémy-de-Provence) وغيرهم. أظهر الحفاظ على أسماء الفنانين وأعمالهم وتداولها في بعض المستشفيات منذ العصور الوسطى إلى يومنا هذا أهمية هذه الأعمال في المستشفيات (2).

سابقًا كانت الأعمال الفنية في المستشفيات لها طابع ديني يخاطب عقل المريض وروحه، أما اليوم فالسؤال عن دَور الفن في المستشفيات يتمحور عن تأثيره في الآلام ومستويات التوتر والقلق ورضى المرضى. وقد أظهرت دراسات حديثة عدة عن عوامل البيئة الفيزيائية (المادية) وتأثيراتها في النتائج الصحية في المستشفيات نطاقًا واسعًا من الآثار الموثقة في المُعالَجين سريريًّا (العلاج المبني على الملاحظة المباشرة للمريض) ودون السريري. على سبيل المثال الإطلالة وضوء النهار وتأثيره في ضغط الدم ومستويات التوتر ومعدل الوفيات. من خلال هذه الدراسات، نشأ مجال جديد سُمِّي "التصميم المبني على الأدلة" (EBD) ،(Evidence-Based Design) والذي ينص على أن هذه الأدلة كافية للاستنتاج بأن تصميم البيئة المحيطة لها تأثيرًا في كلٍ من عملية العلاج ونتائج البحوث السريرية. نتيجة لذلك صيغت إرشادات EBD (التصميم المبني على الأدلة) لاستعمال الأعمال الفنية في مباني دُور الرعاية الصحية، المنسوب إليها أعمال وظيفية محددة للإسهام في العلاج (2).

دمج الفن في دور الرعاية الصحية ليس منطويًا على تعليق أعمال فنية على جدران الغرف وفي الردهات، بل هو الحث على المشاركة الفعالة من خلال فنون الأداء التطبيقية، العمل مع فنانين في مراحل التصميم والبناء المبكرة والدمج الجدي للفن ببنية وبيئة المستشفى. 

وفي ما يأتي دراسة أجراها مجموعة من الباحثين، ثلاثة منهم من جامعة البورج، كوبنهاغن، قسم العمارة والتصميم وتكنولوجيا الإعلام وباحثة رابعة من قسم علم النفس، جامعة جنوب الدنمارك، في أودنسي. اختار الباحثون مستشفى فيندسيسل (Sygehus Vendsyssel) في مدينة يورينغ الدنماركية وكان سؤال البحث الأساسي هو: كيفية تلقي المرضى واستخدامهم الفن في بيئة مستشفى طبيعية؟ إلى أي حد يدركونه وهل يستخدموه على الإطلاق؟ تماشيًا مع الحاجة إلى البحث النوعي ونموه، في إطار الفن والرعاية الصحية، كان أسلوب الباحثون موجه أساسًا إلى العملية التفاعلية، معتمدين على النظريات الظواهرية للتفاعل الاجتماعي والتفاعل المكاني والسردية لفهم المعلومات المحصودة (1,2).

قُسمت التجربة على مرحلتين كلٌ منها مدة أسبوع داخل عدد من الغرف اليومية القابلة للمقارنة الموجودة ضمن خمس أقسام طبية داخل مستشفى فيندسيسل الدنماركية. وجُردت غرف التجربة من كل الأعمال الفنية خلال الأسبوع الأول، فأضحت جدران الغرف بيضاء تخلو من كل شيء إلا الأضواء وأجهزة التلفاز. وعلقت أعمال فنية على جدران الغرف خلال الأسبوع الثاني (2).

*صورة الغرفة خلال الاسبوع الاول بلا أعمال فنية. 

*صورة في أثناء تعليق الأعمال الفنية على جدران الغرفة.

من أجل اختيار الأعمال الفنية التي من شأنها أن تعمل بصفتها عناصر للتجربة اُتبع أسلوب التصنيف التمهيدي (من خلاله تُصنف وحدات بناءً على نقاط تعطى لها عن طريق استطلاع رأي يشارك به عدد معين من الأشخاص)، أُجريت عملية التصنيف خلال يومٍ واحد في غرفة انتظار المرضى في قسم فحص عينات الدم في مستشفى جامعة كوبين-هاغِن الدنماركية.

وعرضت 20 صورة لأعمال فنية مرفقة باستبيان على 103 مرضى، 46% منهم ذكور و54% منهم إناثًا، وكانت فئاتهم العمرية مختلفة حيث تضمنت 1% تحت سن العشرين و38% بين 20-40 و29% منهم بين 40-60 و32% فوق الستين عامًا.

34% من المشاركين كان لديهم تحصيل عملي قصير المدة و57% منهم طويل المدة و9% لم يكن لديهم أي خلفية تعليمية. كان على المشاركين أن يقيّموا الأعمال الفنية حسب رغبتهم والعمل الذي يعجبهم أكثر، عن طريق تصنيف كل عمل بمقياس نقاط من 1 إلى 5 وبعدها تصنيف أفضل 5 أعمال نسبة لبعضها بعضًا. اختار الأعمال الفنية العشرين من بين 3707 عمل باحثان، معتمدَين في اختيارهم على تقارير التصميم الدعم بالأدلة (Evidence Based Design) (EBD). (2). واختيرت اللوحات الأربع الأعلى تصنيفًا واللوحة الأدنى تصنفيًا وهي الأعمال رقم 1،2،3،5 و20. واُستبعدت اللوحة رقم 4 لِعَدم إمكانية الحصول عليها (2).

صورة الأعمال الفنية بعد تصنيفها:

أُستخدامت أجهزة التصوير الحرارية لتوثيق النشاط الحركي الحاصل في غرفتين من أصل الغرف الخمسة من أجل مقارنتها خلال الأسبوع الأول دون أعمال فنية في الغرف والثاني مع الأعمال الفنية معلقة على الجدران. إضافة إلى ذلك عمل الباحثون على جانب آخر لجمع المعلومات عن طريق المقابلات والمراقبة من ثم تسجيل الملاحظات. أُنجز ثلاثون مقابلة بهيكلية منظمة جزئيًا من قبل مدة كل منها 8-42 دقيقة وكان متوسط مدة المقابلات 23 دقيقة، مما أعطى المشاركين فرصة التعبير عن تجاربهم الشخصية ومشاعرهم وأفكارهم ومن ثم أتيح للباحثين الحصول على معلومات قيمة (2).

نتائج الدراسة كانت عمومًا بإنتاج قاعدة أكبر لفهم كيف يمكن استخدام الفن للتأثير في الحياة اليومية للمرضى، والاستفادة من مساحة المستشفى. يعد تطبيق المنظورات الأنثروبولوجية مفيدًا أيضًا في تقديم وجهات نظر جديدة في استكشاف الفن وتأثيره في أماكن الرعاية الصحية. فقد أثبتت الدراسة كما غيرها أن دمج الفن في مساحة المستشفيات قادرة وبأشكال مختلفة على تسريع عملية الشفاء وتقليل التوتر الناتج عن زيارة المستشفى، إضافة إلى التأثير الإيجابي على إحساس المرضى بالأمان والراحة. يجد الناس أنفسهم مكرهين على المكوث في المستشفى، فقد يواجهون الأعمال الفنية دون قصد، والمستشفى واحدةٌ من المرافق العامة القادرة على تقديم تجربة ثقافية جديدة لجمهور جديد، من مرضى وزوار وطاقم العمل.

كما يوضح البحث الذي أجراه البروفيسور أولريش أن دمج الفن داخل المستشفيات المصممة جيدًا لا يوفر بيئة صحية وممتعة فحسب، لكنه يقلل أيضًا التوتر ويحسن نتائج الفحوص السريرية من خلال آليات أخرى مثل زيادة الوصول إلى الدعم الاجتماعي، وتوفير فرص لتخفيف هول الإعدادات السريرية المجهدة. ويساعد الفن على زيادة رضى المريض وأسرته والجودة الشاملة للرعاية، كما يزيد من رضى الموظفين عن مكان العمل (1-3).

وفي الختام نعرض بعض أفكار كاتسو روبرتس (Catsou Roberts) وهي مديرة Vital Arts، وهي منظمة للفنون تكلّف أعمالًا لفنانين معروفين وناشئين في خمسة مستشفيات في إيست إند في لندن، بأن المحاولة لا يجب أن تكون في إثارة الاهتمام تجاه الفنون فحسب، بل هدفها توسيع آفاق المتلقين أيضًا، وتعتقد بأنه عوضًا عن الجدل فقط عن شمولية الأعمال الفنية في المستشفيات، على المحادثات أن تنتقل لتناقش تقديم الفنون التي من شأنها أن تعكس أهمية ثقافية. تطرح روبرتس أيضا فكرة أنه يجب على كل مستشفى أن يكون فيها فريق فنون محترف، متعلم لتاريخ الفن، ويمكنه تقديم أفكار نابضة عبر الفن المعاصر، الأفكار التي يجب أن تكون مخصصة للمكان على نحو خاص وتستجيب لحاجات المرضى. ستكون هذه اللجان من فنانين ليس لهم أعمالهم في مستشفيات أخرى، مما ينتج عنه برامج مبتكرة ومميزة (3).

المصادر:

1. Ryczek K. Art for Health: Use of Art in Hospital Space [Internet]. Health Management. 2010; 12(3): 3. Available from: هنا
2. Nielsen SL, Fich LB, Roessler KK, Mullins MF. How do patients actually experience and use art in hospitals? The significance of interaction: a user-oriented experimental case study [Internet]. International Journal of Qualitative Studies on Health and Well-being. 2017 [cited 26 August 2022]; 12(1): 1267343. PMCID: PMC5328392. PMID: 28452607. Available from: هنا
3. Roberts C. Point of View Art in Hospitals [Internet]. Tate. 2018 [cited 26 August 2022]. Available from: هنا