التعليم واللغات > اللغويات العامة

الحكمة عند المتنبي

ولد أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين الجعفي (303هـ-354هـ) في الكوفة في محلّة يقال لها كندة، وكان شاعرًا مفلقًا شديدَ العارضة راجح العقل عظيم الذكاء، قدِم الشام في صباه واشتغل في فنون الأدب ولقي في رحلته كثيرًا من أيمة العلم فتخرج عليهم وأخذ عنهم، وكان من المطلعين على أوابد اللغة وشواردها حتى إنه لم يُسأل عن شيء إلا استشهد له بكلام العرب من النظم والنثر (1).

مصادر الثقافة عند المتنبي:

ومن الثابت تاريخيًّا أن المتنبي التقى بالفارابي في بلاط سيف الدولة الحمداني منذُ عام (333هـ).

ولا يستبعد أيضًا أن ثمّة صداقة متينة كانت تربط الفيلسوف بالشاعر (2).

يقول القاضي الجرجاني (راح يقرأ الفلسفة والمنطق كما تأثر بمقولات أرسطو) ومن صور تأثره بمقولات أرسطو(على قدر المهم تكون الهمم)، قال المتنبي:

أفاضل الناس أغراضٌ لذا الزمن

يخلو من الهمِّ أخلاهم من الفطن (1).

ويقطع المتنبي كل قول عندما يعترف قرأ لأرسطو وغيره:

من مبلغ الأعراب أني بعدها

جالست رسطاليس والإسكندرا (1).

تركت مصر بصمتها فصقلت موهبته الناضجة وألجأته إلى نفسه فاستخرج منها الشعر الرائع في الحكمة والغناء الذاتي، وتُعدُ مصرياته من أروع ما قاله (2).

وقد جمع إسماعيل بن عباد الحكم والأمثال في شعر المتنبي في كتاب (الأمثال السائرة من شعر المتنبي) فهو يقول:

(هذا الشاعر مع تمييزه وبراعته وتبريزه في صناعته له في الأمثال خصوصًا مذهب سبق به أمثاله) (3).

بعض الحكم التي وردت في قصائده

نصيبُكَ في حياتِكَ من حبيبٍ

نصيبُكَ في منامكَ من خيالِ

ومن تفكّر في الدّنيا ومُهجتهِ

أقامَهُ الفِكرُ بينَ العَجزِ والتّعبِ (1)

فإن تفُقِ الأنامَ وأنتَ مِنهُم

فإنّ المسِكَ بَعضُ دَِم الغزالِ

إذا غامَرتَ في شرفٍ مرُومِ

فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ

إذا رأيت نيوب الليث بارزةً

فلا تظنّن أن الليث يبتسمُ

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيمَ تمردا

على قدرِ أهلِ العزم تأتي العزائمُ

وتأتي على قدر الكرامِ المكارمُ

وتعظُمُ في عين الصّغير صغارها

وتصغُرُ في عين العظيم العظائِمُ

وإذا أتتك مذمّتي من ناقصٍ

فهي الشّهادةُ لي بأنّي كاملُ

والهجرُ أقتلُ لي ممّا أراقبهُ

أنا الغريقُ فما خوفي من البَللِ (1)

ومنْ ينفقُ السّاعاتِ في جمعِ مالهِ

مخافةَ فقرٍ فالذي فعلَ الفقرُ (1)

ذو العقل يشقى في نعيمهِ

وأخو الجهالة في الشّقاوة ينعمُ

وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا

وآفته من الفهم السقيم ِ

ما كلُّ من طلب المعالي نافذًا

فيها ولا كلٌ الرجالِ فحولا (1)

الحبُّ ما منع الكلامُ الألسنا

وألذ شكوى عاشقٍ ما أعلنا

و عذلتُ أهل العشقِ حتى ذقتهُ

فعجبتُ كيفَ يموت من لا يعشقُ (1).

ختامًا، تمتاز أبيات الحكمة عمومًا وعند المتنبي خصوصًا بأنها سهلة وواضحة لا تحتاج إلى شرحٍ أو تفسير، ولا شك أن حركة الترجمة والتدوين كان لها الأثر الكبير في ثقافة المتنبي الموسوعية، لكنّ فطنة الشاعر وعبقريته كانت واضحة وجليّة في قصائده وميّزته عن غيره، فكان مالئ الدنيا وشاغل الناس.

المصادر:

1- المتنبي أبو الطيب أحمد بن محمد الجعفي. ديوان المتنبي. الطبعة الثانية. بيروت: دار بيروت للطباعة؛ 1983. ص 5-571.

2- حسان فاروق. ثقافة المتنبي. ط1. العامرية اسكندرية: العلم والإيمان للنشر والتوزيع؛ 2008. ص 96-122.

3- أبي القاسم إسماعيل بن عبّاد. الصّاحب. الأمثال السائرة من شعر المتنبي. تحقيق: الشيخ محمد حسن آل ياسين. بغداد: مكتبة النهضة؛ 1965. ص22.