الفنون البصرية > أعمال سينمائية

مراجعة فيلم C’mon C’mon

اللحظات تمر، والذكريات تتلاشى، مُسلمات يستحيل علينا تقبلها كما يستحيل نكرانها، غير أن مايك ميلز (Mike Mills) بأسلوبه السينمائي اللطيف، يثور على الواقع للمرة الثالثة، ويحاول أن يمسك لنا بها ويحفظها على شريط فيلمي تحت اسم "C’mon C’mon".

فيأخذنا مع جوني وجيسي برحلة -بمعناها الحرفي- عبر ثلاث ولايات أمريكية مختلفة، وأخرى شعورية ونحن نشهد على ولادة العلاقة بين الخال وابن اخته الصغير ونموها.

واكين فينكس (Joaquin Phoenix)، في أول تعاون له مع ميلز وفي دور يختلف كليًّا -لكن لا يقل إتقانًا- عن آخر ما قدمه لنا في فيلم الجوكر والذي حاز عليه جائزةَ أوسكار، هو جوني بابتسامته الدافئة وعينيه المتعبتين المراسل الإذاعي الذي يجول الولايات ويقابل الأطفال ليسألهم عن أحلامهم وأفكارهم ومخاوفهم، رجل عاش الحب وعانى من الفقدان إلى جانب وودي نورمان (Woody Norman) الطفل الصغير الذي يحوم حوله بحماس منهك بعيون حائرة ومشاعر متقلبة، وفي أول دور له على الإطلاق وازى في أدائه صدق ما قدمه واكين مع كل خبرته وتمكنّه، وغابي هوفمان (Gaby Hoffmann)، رغم ظهورها المقتضب، غير أنها كانت الأخت الكبيرة المبعَدة، الأم المحبة والزوجة المتعبة بكل نظرة ونفس وحركة.

هذا الأداء المتقن، احتواه كادر روبي راين، الذي خلى من أي ألوان أو ظلال قاسية أو متباينة، واعتمد كليًّا على درجات الرمادي والإضاءة الناعمة، مكونًا مشاهدَ عميقة وساحرة، وأكثر زاهوًا من أي فيلم ملون، فباختياره الأبيض والأسود حول ميلز هذه المغامرة الصغيرة إلى حكاية إنسانية عابرة للزمن.

بدى إبداع راين واضحًا أيضًا في تصويره لكل مدينة، من اللقطات الجوية إلى القريبة، في الشاطئ المفتوح وبين الأشجار أو داخل الأزقة الضيقة، كان لكل مدينة شخصية حاضرة إلى جانب فينيكس ونورمان تاركةً انطباعًا مميزًا ومثيرًا للذكريات خصوصًا لدى المشاهدين.

كل من هذه التفاصيل ما هي إلا ضربات فرشاة فنان متمكن من أدواته وذي رؤية واضحة ومتكاملة، رؤية مستمدة من حياته وتجاربه الشخصية، ففي فيلميه السابقين The Beginners و 20th Century Women كانت علاقته المعقدة مع أبيه وأمه وأخته هي الركائز الأساسية التي بني عليها القصة والشخصيات، كذلك فقد استند هنا إلى علاقته مع ابنه في إنتاج هذا العمل، ربما على نحو أقل وضوحًا وحرفية من أفلامه السابقة، غير أن هذه اللمسة الشخصية واضحة، وتضفي صدقًا لمزيج المشاعر الذي نعيشها خلال مشاهدة هذا الفيلم، مشاعر لا تعصف بنا أو تبعثرنا، بل تغمرنا بعناق دافئ، فنسمح لها بالتسلل إلى قلوبنا بينما تسمح لدمعة أو اثنين أن تسيل بصمت، مزيج من الحزن والفقدان والوحدة والضياع، والانتماء والحب والاحتواء، هذا الخليط المتضارب هو ما يجعل من الفيلم تجربة إنسانية وشعورية مميزة، فميلز لا يصنع الأفلام لتكون قصة بخط سير مستقيم وأحداث متصاعدة وحبكة ثم حل، بل يصورها بوصفها لحظاتٍ عابرةً ومزيجًا من المشاعر والصور والأصوات المتقاطعة، هو يصوّر الأفلام كما نختبر نحن الحياة، يصورها بصفتها ذكرى تتلاشى (كما يخشى جيسي)، يتداخل بها الماضي مع الحاضر، ذكرى نحاول التمسك بها، كما يَعِدهُ جوني.

بهذا الأسلوب الرقيق والعاطفي يلامس الفيلم الطفل فينا الذي يخشى على ذكرياته من الضياع والبالغ المثقل بما بقي منها، ويتناول مواضيع حساسة كالأمومة والأخوة والفقدان والحب بخفة وعمق.

فما يحاول ميلز تحقيقه في كل فيلم من أفلامه، وفي كل مشهد، هو تمامًا ما يسعى له جوني؛ أن يمنح الخلود للأشياء العادية…

ما رأيك قارئَنا؟ هل نجح ميلز من تحقيق ذلك عبر فيلمه؟ وهل كان اختيار التصوير بالأبيض والأسود موفقًا؟ شاركنا رأيَك في التعليقات..

 معلومات الفيلم: