علم النفس > الأطفال والمراهقين

الحرمان الأموميّ

 ظهر مفهوم الحرمان الأموميّ (Maternal Deprivation)  للمرّة الأولى على يد عالم التحليل النفسيّ جون بولبي John Bowlby عام 1952-1951 م (1,2)، في نظريّته التطوريّة في التعلّق (Bowlby’s Evolutionary Theory of Attachment) التي عارض فيها النظريّة السلوكيّة السائدة عن التعلّق الأموميّ التي تنصّ أن العلاقة المتكوّنة بين الأمّ والمولود تتشكّل بسبب تقديم الأمّ الغذاءَ لطفلها؛ إذ افترض بولبي أنّ الطّفل يولدُ بحاجة فطريّة للتعلّق برابطٍ أساسيٍّ قويٍّ ووحيد يظهر غالبًا مع الأم، ويكون الطّفل مبرمجًا جينيًّا على سلوكيّات تؤكّد على حدوث هذا الرابط (مثل: الابتسامات والبكاء والزحف) وتؤدّي إلى دفع الأمّ لتقديم الرعاية ومن ثم تحقيقِ الرّبط العاطفيّ، فهذا السّلوك مرتبطٌ ارتباطًا أساسيًّا بالاصطفاء الطبيعي؛ إذ إنّ الأطفال الذين حظوا برابط قويّ مع أمّهاتهم امتلكوا فرصةً أكبر للبُقية، وبناءً عليه وصف بولبي افتراق الطفل عن أمّه أو موتها بالحرمان الأموميّ (1).

    لم يُبقِ بولبي المجالَ العمريّ الذي يكون تشكيل هذا الرابط محوريًّا فيه مبهمًا، بل حدّده بالسنتين الأوليّتين من حياة المولود الجديد، فوفقًا للنظريّة فيما يخصّ هذه العلاقة فإنّ عناية الأم بطفلها بلا فائدة إذا تأخّرت لما بعد عمر السنتين إلى ثلاث سنوات، وسمّى بولبي هذه الفترة بالفترة الحرجة (Critical Period)، كذلك فإنه لم ينفِ قدرة الطفل على تشكيل علاقاتٍ أُخرى إضافةً إلى العلاقة المذكورة آنفًا، بل شبّه مجموع العلاقات السابقة بهرم تتربّع هذه العلاقة على قمّته (1).

    لاحظ بولبي عام 1952م بالتعاون مع العالم جيمس روبرتسون أنّ وجود مقدّمي رعايةٍ مؤقّتينَ بديلينَ عن أمّهات الأطفال لم ينفِ عنهم مشاعر القلق والتوتّر؛ إذ مرّ الأطفال المعرّضون للحرمان الأموميّ في الحالة السّابقة بثلاث مراحلَ أساسيّة: 

1- الاحتجاج (Protest): يحاول الطفل منع الآباء من مغادرته عن طريق البكاء والصّراخ والتشبّث بهم.

2- فقدان الأمل (Despair): يبدأ سلوك الاحتجاج بالتلاشي، ويرفض الطّفل محاولةَ مقدّمي الرعاية الآخرين لإمتاعه، ويبدو حزينًا وفاقدًا للاهتمام بالأشياء جميعها.

3- فقدان الصلة (Detachment): إذا استمرّ الانفصال، سيرفض الأطفال عودة آبائهم ويبدون ملامحَ واضحةً للغضب عند رؤيتهم (1).

    وتُرجع النظريّة أهميّة هذه العلاقة إلى أنّ الطفل يستخدمها بصفتها أُنموذجًا يشكّل أساسَ بناءِ علاقات الطّفل الاجتماعيّة مستقبلًا مع البالغين والأقران (2)، وإطارًا يحدّد فهم الطّفل للعالم إضافةً إلى نفسه والآخرين، فبغيابها يظهر لدى الأفراد سلوكٌ انحرافيٌّ وعدوانيٌّ مع مستوياتِ ذكاء أقل، وانعدامِ العاطفة (Affectionless Psychopathy)، وهنا يصبح الأفرادُ عاجزينَ عن إبداء التّعاطف أو الاهتمام بالآخرين، ولا يظهرون أيّ نوع من مشاعر الذّنب عند ارتكاب فعل معادٍ للمجتمع (1).

    وأكثر ما يُرى هذا الحرمان على نحْوٍ  واضح في مؤسّسات الرعاية (مثلِ دور الأيتام)، إذ أُقيم في رومانيا مشروع بوخارست للتدخّل المبكّر (The Bucharest Early Intervention Project) اختصارًا (BEIP)، وهو أوّل تجربة لدراسة تأثير الرعاية الأسريّة على أطفال المؤسّسات المذكورة، وشكّلت هذه التجربة فرصةً لاختبار الأفكار التي أتى بها بولبي عن أهميّة نشوء الرّبط العاطفي وتأثير غياب الرعاية (2).

     قُسّم الأطفال في تجربة (BEIP) إلى عيّنة نُقلت إلى عائلات تُقدّم الرعاية الأسريّة لها، وعيّنة أُبقيت في دور الرعاية، وأظهرت النّتائج أنّ 100% من أطفال العيّنة الأولى قد نجحوا في تحقيق الرّبط العاطفيّ، أمّا أطفال العيّنة الثانية فلم ينجح إلّا 3% منهم في تحقيق ذلك، وفشل 97% الباقون في تحقيق الأمر ذاته (2).

    وقد لوحظ أنّ نمو الأطفال في هذه البيئة المحرومة له آثارٌ وخيمةٌ على تطوّر الدماغ والسلوك، نذكر منها:

1-      ارتفاع خطر الإصابة بالأمراض النفسيّة.

2-      لدى الأطفال الناشئين في هذه البيئة كميّة أقلّ من المادة الرماديّة في الجهاز العصبيّ.

3-      ارتفاع خطر الإصابة باضطرابات نقص الانتباه.

4-      وبالتّأكيد، لهذه المشكلة تأثيرٌ عكسيّ على القدرة على بناء العلاقات الاجتماعيّة (2).

    ومن جهةٍ أُخرى، تعرّضت عدّة أفكار اقترحها بولبي في نظريته للانتقاد، إذ أوضح مايكل روتر عام 1972م في كتابٍ نشره بعنوان (إعادة تقييم الحرمان الأموميّ – Maternal Deprivation Re-assessed) أنّ بولبي بالغ في تبسيط مفهوم الحرمان الأموميّ، فلم يفرّق بين خسارة العلاقة “Deprivation” وبين عدم نشوء علاقةٍ أصلًا (Privation)، وأوضح روتر عام 1981م أنّ فشل نشوء الرّابط العاطفيّ يؤدّي إلى سلوك اعتماديّ وتعلّق مفرط وطلب اهتمام مفرط وتكوين علاقات عشوائيّة. ومن وجهة نظره، فإنّ هذه الاضطرابات جميعها لا تنشأ عن غياب الرابط الأموميّ فحسب كما افترض بولبي، بل ترتبط أيضًا بما يرافق هذا الغياب من فقدان التحفيز الذهنيّ والتجارب الاجتماعيّة التي تقدّمها هذه العلاقة في الحالة الطبيعيّة (1).

    كما أنّ افتراض بولبي أنّ الافتراق الفيزيائيّ وحده كفيلٌ بحدوث هذا الحرمان لاقى معارضةً من روتر، فقد كشف أنّ 52% من الأطفال الذين عانت أمّهاتهم من الاكتئاب كانت ارتباطاتُهم غير سليمة، وارتفعت هذه النسبة إلى 80% في حالة ترافق اكتئاب الأمّهات مع الفقر، وبيّنت هذه النتائج أهميّة جودة العلاقة فضلًا عن وجودها، وهو ما لم يأخذه بولبي في الحسبان في نظريّته (1).

    وفي دراسةٍ طويلة الأمد أجراها كلٌّ من العالمين جيل هودجيز و باربارا تيزارد عام 1989م، تبيّن أنّه على خلاف ما افترضه بولبي، أنّ فشل تحقيق العلاقة الأمومية للأطفال لم يكن ذا تأثير محتوم في شخصيّاتهم عند نضجهم، فبوجود رعاية ذات نوعيّة عالية، وعلاقات مبنيّة على الحب، يمكن معاكسة التأثيرات السلبيّة المذكورة سابقًا(3).

    ونجد دعمًا لهذه الفكرة في مشروع بوخارست للتدخّل المبكّر (BEIP)، إذ لوحظ أنّه حتى في أقصى حالات الحرمان الأموميّ التي لا يبدي فيها الطفل أيّ بوادرَ لنشوء علاقة مع مقدّم الرعاية، يبقى هناك مرونةٌ لدى الطفل لإنشاء علاقة ثابتة مع القائمين على رعايته، لكن العامل الأساسيّ في تحديد هذه المرونة هو الوقت، إذ تشير الدلائل إلى أنّه كلّما كان وقت إحاطة الطفل ببيئة رعاية سليمة أبكر، زادت فرصة تعافيه من الآثار الوخيمة للحرمان الأموميّ، لذلك سُمي المشروع بمشروع التدخّل المبكّر (2). 

    عمومًا، وعلى الرّغم من كل الآثار السلبيّة للحرمان الأموميّ التي أوردناها في مقالنا، أقرّت اليونيسف عام 2007م أن هناك حوالي 8 مليون طفل ينشؤون في مؤسّسات الرعاية التي تحدّثنا عنها (2)، فهل سنجد حلًّا لهذه المشكلة؟

المصادر:

1. Mcleod S. Bowlby's Attachment Theory [Internet]. Simplypsychology.org. 2017. Available from: هنا
2. Fox NA, Nelson CA, Zeanah CH. The Effects of Psychosocial Deprivation on Attachment: Lessons from the Bucharest Early Intervention Project. Psychodynamic Psychiatry. 2017 Dec;45(4):441–50. Available from: هنا
3. Mcleod S. Hodges and Tizard 1989 | Simply Psychology [Internet]. Simplypsychology.org. 2008. Available from: هنا