إنستغرام > علوم طبيعية

علم الحشرات الشرعي

منذ الأزل؛ ارتبطت الحشرات دومًا بالسمعة السيّئة التي لا تزال ترافقها حتى يومنا هذا.

ولا يسعى هذا الموضوع إلى تحسين تلك السمعة، وإنما يستعرض كيف كانت الاستفادة من كون شعبة مفصليات الأرجل هي الأكبر في الممالك جميعها؛ مما يعني وجودها على مساحات واسعة النطاق شاملًا مسارح الجرائم بأنواعها تحت مسمى "علم الحشرات الشرعي"، وهو العلم الذي يطبّق علم الحشرات (Entomology) في التحقيقات؛ إذ يستخدم الحشراتِ ومفصلياتِ الأرجل الأخرى للكشف عن ملابسات القضايا الجنائية بمُختلَف أنواعها (1).

دعونا نتعرف أكثر إلى هذا العلم في مقالنا الآتي.  

ارتبط معظم تاريخ "علم الحشرات الشرعي" بفرعه علم الحشرات الطبي الجنائي (medico-criminal entomology) وخاصةً جرائم القتل (2).

رُصِدت أول حالة لاستخدام الحشرات في الكشف عن الجرائم في كتاب The Washing) Away of Wrongs) للمحامي والمُحقق الصيني سونغ تسي Sung Tiu، وذلك في قصة حدثت في القرن الثالث عشر لمُزارع صيني قُتِلَ في حقل أرز بمنجل دون معرفة الجاني، فطلب المُحقق من الجميع وضع مناجلهم دون فعل شيء، وما هي إلا دقائق حتى تجمّع الذباب على أحدها، فانكشف الغموض عن القضية على الرغم من اجتهاد القاتل في تنظيف السلاح (1).

أما في العصر الحديث؛ فقد كان أولُ تطبيق فعلي لعِلم الحشرات الشرعي هو لتقدير زمن ما بعد الوفاة (postmortem interval (PMI -أي الزمن المُقدَّر بين إيجاد الجثة والوقت الفعلي للوفاة- عن طريق الدكتور لويس بيرغريت Louis Bergeret عام 1855م، وذلك في قضية طفل وُجِدت جثته وعليها شرانق الذباب الأزرق و يرقات العث، وبالاعتماد على الخط الزمني لدورة حياتهما؛ بُرِِّئَت الأسرة التي كانت تسكن حينها في المنزل واتُّهِمت من كانت تقطنه قبلهم (1).

كذلك ساهم الطبيب البيطري وعالم الحشرات بيير ميغنين pierre megnin  في كثيرٍ من تقدُّمِ مستوى هذا المجال، ولا يزال كتابه (La faune de cadaver) أحدَ أهم الكتب في علم الحشرات والتي تستخدم حتى هذا اليوم (3).

أمّا أول دراسة منهجية في هذا الحقل فقد كانت بواسطة الدكتور الألماني "هيرمان رينارد" عام 1881؛ الذي صنّف ووصف بعض الحشرات وكيفية ارتباطها بالجثث لدرجة أنها قادرة على التزاوج داخل الشقوق الموجودة بها، مع الأخذ بعين النظر أنّ السبب المباشر قد يعود لتغذّيها على جذور النباتات في القبور (1).

ومن ثم توالت الدراسات عن علم الحشرات الشرعي بعد الحروب العالمية  في أوروبا، إلى أن أصبح جزءًا لا يتجزّأ من ملفات قضايا الجرائم باختلاف أنواعها في أمريكا وروسيا وكندا (1).

فروع علم الحشرات الشرعي (2)

يُدرَج تحت علم الحشرات الشرعي قسمان رئيسيان بناءً على استخدامه في القضايا:

*القضايا عن تحديد المسؤولية:

1- علم الحشرات الهيكلي Structural Entomology:

وهو القائم على تقييم الممتلكات المدنية -سواءً أراض زراعية أم المباني- للتأكُّد من خلوّها من الآفات، كذلك يُستعان بعلماء الحشرات في حملات التفتيش حول المنشآت المتضررة وتقييمها ما إذا أُصلِحت على نحو مناسب.

2- علم حشرات المنتجات المخزّنة Stored-Product Entomology:

إنّ كثيرًا من القضايا القانونية عن فساد الأغذية تعتمد على علماء الحشرات لتحديد الأصل والمنشأ والأسباب المُحتملة لتدمير الغذاء.

3- المخاطر المهنية المرتبطة بمفصليات الأرجل Occupational Hazards Associated With Arthropods:

يُستدعَى علماء الحشرات في بعض قضايا العاملين في المنشآت ومربّيي المفصليات والمختبرات، خصوصًا في حالات الحساسية والسمّية التي تسببه بعض أجزاء الحشرات أو إفرازاتها أو فضلاتها والتي قد تكون سامة أو قاتلة.

4- علم الحشرات البيطري والحياة البرية Veterinary and Wildlife Entomology:

يُستخدَم هذا الحقل في القضايا الناتجة عن ضعف تربية الحيوانات والتي تتسبب بغزو الحشرات الضارّة، إضافةً إلى أنه يُستخدَم كثيرًا في حالات أذى الحيوانات والصيد الجائر.

*القضايا عن القتل والحوادث والإساءة:

تحوي هذه القضايا فرعًا واحدًا هو علم الحشرات الطبي الشرعي Medicolegal entomology:

- الموت المفاجئ:

في حالة الموت المفاجئ ووجود الحشرات على الجثة أو حولها، يكون أحد الاحتمالات الواردة  أنّها حدثت بسبب حساسية مفرطة ناتجة عن عضّةِ نوعٍ ما من الحشرات أو لدغتِه؛ فيقع على عاتق عالم الحشرات تعريف الأسباب المُحتملة للتفاعل وتقييمها، إضافةً إلى أنّ ذلك يتطلب إجراء اختبارات طبية دقيقة عن المُتوفي والتاريخ الطبي المرتبط باستجابته المناعية.

- حوادث السيارات:

في بعض حوادث السيارات توجد بعض الحشرات اللاسعة كالنحل والدبابير أو أشباههما، وهنا يكون الاحتمال أنّ السائق قد ذُعِر أو تشتت عن القيادة؛ مما أدى إلى وقوع الحادث، فتُؤخَذ بعين النظر استشارةُ عالم الحشرات في القضية المرتبطة بالحادث.

- الوفاة الناتجة عن الإساءة أو الإهمال:

تُعدّ بعض أنواع الذباب (كالخوتعيات وذباب اللحم) من آكلات اللحوم، وقد تتغذّى يرقاتها على  اللحم الحي مُسببةً مرض النغف (myiasis) الذي يُعدّ مؤشرًا على الإهمال عمومًا؛ سواءً أكان الإهمال الطبي -كعدم تغيير الضمادات على الجروح والقروح- أم إهمال الأطفال بسبب عدم تغيير الحفاضات.

- تهريب المخدرات والجرعات الزائدة:

وُجِد أنّ بعض الحشرات والعث ترتبط دومًا بالقنَّب أو الماريجوانا؛ مما ساعد الجهات المسؤولة على تحديد المكان الدقيق لمنشَئِها. وعلى الرغم من أنّ بعض أنواع هذه الحشرات آفات عالمية؛ لكنّ بعضها لا يوجد إلا في مناطق جغرافية معينة تساعد على إدانة الجهة المُصَدِّرة.

أما فيما يخص الوفاة الناتجة عن جرعة زائدة، فيُستخدَم علم الحشرات عندما تكون الجثة متحللة لدرجة أن يعجز فيها الطبيبُ الشرعي عن أخذ عيّنة لإجراء فحص السموم، فتُؤخَذ الحشرات وبقاياها لاختبارها. وقد أثبتت اختبارات الاستشراب (chromatograpghy) والطيف الكتلي (mass spectrometry) باستخدام الحشرات نجاحَها في الكشف عن العديد من المسكّنات؛ كالباربيتورات، والكوكايين، والهيروين، والمعادن الثقيلة وغيرها من المواد.

ويجب التنبيه إلى أنّ هذه الاختبارات دقيقة لتحديد النوعية، أما الكمية يجب أن تخضع لاختبارات سميّة أخرى لإعطاء نتائج حاسمة.

- الاشتباه بالقتل:

يُعتمَد على التوزيع الجغرافي للحشرات كثيرًا في الكشف عن الأماكن التي زارها المشتبه به وما إذا نُقِلت الجثة أم لا؛ إذ  يبحث الباحثون عن الحشرة وأجزائها وبقاياها في ملابس الجثة أو المركبة وكل ما هو متصل بالجثة. 

وقد قُبِض على أحد القتلة المتسلسلين لجرائم حدثت في كاليفورنيا (غرب أمريكا) حينما استأجر المُشتبَه به سيارةً في أوهايو (شرق أمريكا) وادّعى أنه لم يخرج منها قط، ولكن عند فحص مبرٍّد وفلتر السيارة وُجِد أنهما يحتويان على بقايا الجراد (الجندب) والدبابير الورقية ونوعين من حشرة الزيز، وهذه الأنواع لا توجد مجتمعة إلا في ولايات أقصى الغرب؛ مما ناقض ادّعاء المشتبه به وساعد على إدانته.

كذلك يُستخدَم علم الحشرات في ربط المتهم بالضحية؛ ففي إحدى القضايا أُدينَ أحدُ المشتبه بهم بعدما وُجِد جزءُ ساقِ جرادةٍ مكسورة في ثنية بنطاله، والتي كانت متممة للتي وُجِدت على الجثة.

ولكن يبقى السؤال: هل تصلح الحشرات كلها جنائيًّا؟

الحشرات المهمّة جنائيًّا (3):

ثنائيات الأجنحة Diptera: تتميز بالزوج الواحد من الأجنحة، أما الآخر يُختزَل إلى ثقالات تعمل على توازن الطيران.

وتُعدّ هذه الرتبة مهمة جنائيًّا كونها تحوي فصيلة الخوتعيات (Calliphoridae) التي قد تصل وتستعمِر الجثة بغضون دقائق معدودة في معظم الظروف البيئية والجغرافية؛ مما يكون مفيدًا في تقدير وقت الوفاة. وتوجد على الجثث إما لغاية التغذية على سوائلها، وإما لوضع البيوض التي تبدو كحبوب أرز في كل فتحة ممكنة بها. 

أهم أمثلتها: الذباب الأزرق Calliphura بنوعيه (C.vicina and C.vomitaria)، والمُتَحَلِّزَةُ الماسيلِّيَّة Cochliomyia macellaria، والخِشْفُ الزَّغَبِيّ Lucilia sericata، واليَسَفُ المُلُوكِيّ Phormia regina.

مُغَمَّداتُ الأَجْنِحَة Coleoptera:

تشكّل الخنافس أكثرَ من رُبع الأنواع المعروفة من الحشرات، وتصل إلى الجثة بعد ثنائيات الأجنحة في مراحل التحلل المتوسطة والأخيرة. وعلى الرغم من أنها لا تحظى بالاهتمام نفسه الذي تحظى به ثنائيات الأجنحة؛ ولكن يُعتمَد عليها أحيانًا، ففي المناطق الحارة والجافة قد تحلّ خنفسة الجلد محلَّ الذباب الأزرق بالأهمية لأنها تصل قبله إلى الجثث؛ إذ أثبتت التجارب أنها تصل في غضون 24 ساعة من الوفاة في المناطق الصحراوية.

يتغذّى معظمها على الجثة مباشرةً؛ كخنافس الجلد Dermestidae، وآكلة الجذور Rhizophagidae، والخنافس العنكبوتية (الهبونيات) Ptinidae، والظلاميات Tenebrionidae، أو تتغذى على يرقات بعض ثنائيات الأجنحة كالخنافس المهرِّجة Histeridae والعنقوديات staphylinidae.

مفصليات الأرجل الأخرى:

إضافةً إلى ثنائيات الأجنحة والغمديات؛ هناك فقط عدد قليل من الرُتب الأخرى التي توجد على الجثث.

على سبيل المثال: ربما تنجذب حرشفيات الأجنحة للجثث أو سوائل الجسم الغنيّة بالنتروجين. كذلك تتغذى يرقات عث الملابس (Tinenla hiselliella) وأنواعٌ شبيهة على بقايا الجثث الجافة من البشرة والشعر، وقد تحظى بعض الحشرات الطفيلية (كالقمل والعث والبراغيث) بالاهتمام أحيانًا.

ففي إحدى القضايا التي حدثت في كاليفورنيا؛ قُبِض على أحد المشتبه بهم بسبب الخَطْماوات (trombiculid mites)؛ إذ عضّت المحقق حين كان في مسرح الجريمة، وتبيّن أنها تهاجم عددًا قليلًا من الفقاريات وتتطفل -عرضيًّا على نحو كبير- على الإنسان في منطقة محدودة وهي مكان حدوث الجريمة. وبمقارنةِ البقع التي أحدثتها على البشرة بين الضابط والمشتبه به؛ تبيّنَ أنها متشابهة؛ مما أدى -مع الأدلة الأخرى- إلى إدانة المُتّهم من قبل هيئة المحلفين.

وتُقسَم تغذية الحشرات على الجثة إلى أربع أنواع (3):

1- الحشرات الرميّة: هي التي تتغذى على الجِيَف، وتُعدّ ذات الأهمية الكبرى في العالم الجنائي، ومن أهم أمثلتها: الذباب الأزرق (منها ذبابة اللحم وذبابة القارورة الخضراء) وخنافس الجلد والدرقيات.

2- مفترسات وطفيليات الفئة الأولى: تشكّل هذه الفئة أهمية جنائية حتى إن كانت أقل من سابقتها؛ إذ تغيّر بعض ثنائيات الأجنحة أسلوبَ تغذيتها إلى افتراس يرقات الحشرات الأخرى مثل الخنافس العنقودية وبعض أجناس عائلة الذبابة المنزلية كالذباب المعدني والزارَّة.

3- القوارت: هي التي تتغذى على كلٍّ من الجثة والأعشاب التي حولها؛ كالنمل والدبابير.

4- الحشرات العابرة: يستخدم هذا النوع الجثةَ فترةً قصيرة إما للراحة والتغذية وإما أن تراها امتدادًا لموطنها الأصلي، ومن أمثلتها العناكبُ وقافزات الذيل.

و أخيرًا عزيزي القارئ، هل كنت تتوقع هذه الأهمية للحشرات المزعِجة؟

المصادر:

1. Benecke, M. (2001). A brief history of forensic entomology. Forensic Science International, 120(1-2), 2–14. doi:10.1016/s0379-0738(01)00409-1

2. Krinsky, W. L. (2019). Forensic Entomology. Medical and Veterinary Entomology, 51–60. doi:10.1016/b978-0-12-814043-7.00005-4

3. Turner B.D. (1991) Forensic Entomology. In: Maehly A., Williams R.L. (eds) Forensic Science Progress. Forensic Science Progress, vol 5. 129–149. doi: 10.1007/978-3-642-58233-2_4