كتاب > روايات ومقالات

رؤية نفسية في معنى الحياة

سجل فيكتور فرانكل  (Viktor Emil Frankl)‏ (1905-1997) تجاربه وهو سجينٌ في معسكرات الاعتقال في أثناء الحرب العالمية الثانية. وبدلاً من الاستسلام وقبول حكم الموت المُحتمل في أية لحظةٍ كما فعل معظمهم، قرر استخدام معاناته لمساعدة الآخرين ومساعدة نفسه.

في الجزء الأول من كتابه يتناول الخبرات في معسكر الاعتقال

يحدد فرانكل للقارئ منذ البداية أن كتابه تجميعٌ لتجاربه وملاحظاته،ونجده يركز فيه على كيفية تأثير الصراعات اليومية للحياة في المخيمات في الحالة العقلية لزملائه السجناء.

ووفق الكتاب هناك ثلاث مراحل نفسية يمر بها السجناء: الأولى الصدمة خلال الأيام القليلة الأولى في المعسكر، والثانية اللامبالاة بعد التعود على وجود المعسكر، وأما الثالثة نزع الشخصية ما يؤدي إلى الشعور بالمرارة وخيبة الأمل من الحياة بعد التحرير. 

عانى أفرادٌ كُثرٌ من الظاهرة المعروفة باسم "وهم الإبراء"، وفيها يصبح الإنسان المحكوم عليه بالإعدام مقتنعاً بأنه قد يُطلق سراحه قبل إعدامه مباشرةً. كان السجناء يمرون أمام حارس يوجههم إلى اليمين أو اليسار، فيُرسل نحو 90 ٪ إلى اليسار للإعدام، ثم تُرسل القلة المتبقية إلى اليمين وكان منهم فرانكل، وتُزال بعد ذلك ممتلكاتهم جميعها ولا يبقى لهم سوى وجودهم العاري. 

المرحلة النفسية الثانية للسجين اللامبالاة وتخفيف العواطف والشعور بأن المرء لم يعد يهتم. يذكر فرانكل أن هناك كثيراً من الحقيقة في تعريف دوستويفسكي للإنسان بأنه مخلوق يمكن أن يعتاد أي شيء.

 فكر فرانكل في كثيرٍ من الأوقات في زوجته وأدرك أن الحب هو الهدف النهائي والأسمى الذي يمكن للإنسان أن يتطلع إليه، وأنه في وضع الخراب التام. ساعده تكثيف الحياة الداخلية على البحث عن ملجأ من الفراغ والفقر الروحي الذي يعاني منه الإنسان. ومع ذلك فقد عانى عديدٌ من السجناء من فقدان القيم، وأصبحوا جزءاً من كتلة هائلة من الذين انحدر وجودهم إلى مستوى الحياة الحيوانية.

يرى فرانكل أنَّ الإنسان ليس نتاجاً عرضياً لطبيعةٍ بيولوجية ونفسية واجتماعية فقط، ولكن يمكن للإنسان الحفاظ على بقايا الحرية الروحية ولو كان في مثل هذه الظروف الرهيبة من الضيق النفسي والجسدي. وإذا كان هناك معنىً في الحياة، فلا بد من وجود معنى للمعاناة. المعاناة جزءٌ لا يتجزأ من الحياة وفق ما أشار دوستويفسكي: "هناك شيءٌ واحد أخافه: ألا أستحق الآلام."

عاش السجناء حياةً مؤقتة ذات حدودٍ غير معروفة، بلا مستقبل وبلا هدف؛ ما زاد الشعور بالحيوية، ومع ذلك يمكن للمرء أن يخرج منتصراً من تلك التجارب، وأن يحول الحياة إلى انتصارٍ داخلي، أو يمكن للمرء أن يتجاهل التحدي ويحيا ببساطة، كما فعل غالبية السجناء.

"عندما لم نعد قادرين على تغيير الموقف، فإننا نواجه تحدياً لتغيير أنفسنا."

يمكن أن يكون لفقد الأمل والشجاعة المفاجئ تأثيرٌ مميت، إذ تضعف قوة المرء في المقاومة ويجعل المرء عرضةً للإصابة بالمرض. تجسد ذلك بارتفاع معدل الوفيات في الأسبوع بين عيد الميلاد ورأس السنة الجديدة في المخيم بما يتجاوز كل التجارب السابقة، فقد كان كثيرون يأملون في إطلاق سراحهم ولم شملهم مع أحبائهم. 

فالإنسان يحتاج هدفاً مستقبلياً، يقتبس فرانكل كلمات نيتشه:

"من لديه سببٌ يعيش من أجله يمكنه تحمل أي طريق."

"ما لا يقتلني يجعلني أقوى."

"لا يهم حقا ما نتوقعه من الحياة، بل ما تتوقعه منا الحياة".

الجزء الثاني من الكتاب هو العلاج بالمعنى

سمّى عمله من الكلمة اليونانية logos، التي تعني معنى. يتمحور شكل علاجه حول مساعدة المرضى على إيجاد معنىً في مستقبلهم، على عكس ممارسة التحليل النفسي لحل مشاكل المريض من خلال التركيز على ماضيهم.

إن أهم قوةٍ في حياة الإنسان رغبته في إيجاد المعنى، ويركز فرانكل على "إرادة المعنى"، كونها قوةً تحفيزية أساسية في الإنسان، وفي المقابل يكون عدم القدرة على اتباع إرادة المعنى مؤدياً إلى الإحباط الوجودي، ومن ثَم إلى الإصابة بالعصاب. يمكن تعريف العصاب بأنه ضعف القدرة على التكيف مع البيئة، وعدم القدرة على تغيير أنماط حياة المرء وصعوبة تطوير شخصيته.

على عكس حالات العصاب التي يُتعامل معها في ممارسة التحليل النفسي التي تنشأ من إشباع وإرضاء الدوافع، يتحدث المرء في العلاج المنطقي عن العصاب المعنوي المنشأ، أي الذي ينشأ من القضايا الوجودية ومشاكل الإرادة إلى المعنى.

إن اهتمام الإنسان بقيمة الحياة محنةٌ وجودية ولكنه ليس مرضاً عقلياً. قد يدفع سوء تفسير هذا الطبيب إلى دفن اليأس الوجودي لمريضه تحت كومة من الأدوية المهدئة.

يعتبر الاختصاصي أن مهمته تتمثل في مساعدة المريض على إيجاد معنىً في حياته من خلال توسيع المجال البصري للمريض ليصبح الطيف الكامل للمعنى المحتمل واعياً ومرئياً له.

لكي يكون الإنسان سليماً عقلياً يجب أن يكافح باستمرار ويسعى لتحقيق هدف جدير بالاهتمام. عندما يطارد الناسُ فراغهم الداخلي مع شعورٍ بانعدام المعنى المطلق فإنهم يشعرون بما يعرف باسم "الفراغ الوجودي" . لا ينبغي للإنسان أن يسأل عن معنى حياته بل عليه أن يدرك أنه هو المطلوب، ومن ثَم  فإن المسؤولية هي جوهر الوجود البشري.

يرى فرانكل أن هناك ثلاث طرائق لإيجاد معنى في الحياة: الأولى من خلال العمل أو القيام بفعل ما، وهو طريق الإنجاز، والثانية بالحب وهو الطريقة الوحيدة للمس جوهر الآخر، والثالثة بالموقف الذي نتخذه تجاه المعاناة التي لا مفر منها، فهي ليست بأية حالٍ  ضروريةً لإيجاد معنىً، ولكن المعنى ممكنٌ على الرغم من المعاناة .

 أحد المبادئ الأساسية للعلاج بالمعنى أنَّ همَّ الإنسان الرئيسي ليس الحصول على المتعة أو تجنب الألم، بل بالأحرى رؤية معنىً في حياته.

 في النهاية لا يمكن السعي وراء السعادة المطلقة؛ فالإنسان ليس شخصاً يسعى وراء السعادة، بل يبحث عن سبب يجعله سعيداً من خلال تحقيق المعنى المحتمل المتأصل والهادئ في كل موقفٍ معين. 

معلومات الكتاب:

210