التاريخ وعلم الآثار > شخصيات من سورية

من ضِفاف الفرات إلى العالم..عبد السلام العُجيلي

على ضفاف الفرات كَبِر وترعرع، عاش حياة البداوة مع أبناء عمومته،وكان فرداً من عائلةٍ كانت أول من استقر في بيوت حجرية وهجرت حياة الرعاة وانصرفت إلى الزراعة.

في مدينة الرّقة أوائل القرن المنصرم استقرّت عائلته، وفي مجتمعٍ كانت الأمّية تسوده، كانت عائلة العجيلي تتميز بكثرة متعلّميها حتى أنّه هو نفسه كان يقرأ ما يقارب المائة كتابٍ كلّ عام.

ذاك الذي وُصِفَ بـ :"أروع حضريّ عرفته البادية، أروع بدويّ عرفته الحاضرة"، سُئِل ذات يوم وهو ما يزال في المرحلة الابتدائية عن ما الذي يريد أن يصبح عليه حين يكبر؟

فأجاب: ما أستطيع أن أخفف به آلام كلّ مريض، أريد أن أصبح طبيباً! ... وكان له ذلك.

في عشرينيات القرن الماضي،ولد العجيلي، المدهش والمضحك في آن معاً أن لا سبيل لمعرفة العام الذي وُلِد فيه على وجه التحديد، حيث لم يكن في مدينة الرّقة حينها سجلّات ثابتة للمواليد، كما أنّ ضيق العجيلي من أولئك الذين يحاولون أن ينقصوا من أعمارهم جعله يقدّم على قيد نفوس جديد يعدّل التاريخ المرجّح لولادته من 1918 إلى 1912!

على ضفاف الفرات وتحديداً مدينة الرقة، استقر العجيلي وعائلته، حيث كان يتوجب على المرضى هناك أو حتى أولئك الذين يشكون من أبسط علّة، أن يشدّوا الرحال إلى حلب للطبابة والعلاج.و هذا ما فعله ابن الرقّة الذي قصد حلبَ لكن للالتحاق بثانوية تجهيز حلب عام 1929.

ابن العائلة البدوية الأصيلة عانى من ضيق الحال، ممّا اضطرّه إلى ترك الدراسة ليقوم والده لاحقاً ببيع "كرد" أي قطعة أرضٍ كانت لديه بجانب نهر الفرات، ليسمح لابنه باستكمال تعليمه.

في معهد الطب العربي في دمشق، درس الطب وتابع نشاطه السياسي الطلابي مشاركاً في التظاهرات ضد سلطات الانتداب الفرنسي التي سلبت لواء اسكندرون وضمّته إلى تركيا..كما ارتجل رسماً للعلَم اللبناني في مظاهرةٍ تطالب بإطلاق سراح رجالات لبنان، بشارة الخوري و رياض الصلح، المعتقلين من قبل فرنسا، وكان العلَم هو نفسه العلم السوري ولكن وضع بدلاً عن النجمات، ثلاث أرزات.

عاد عبد السلام طبيباً إلى بلدته، ليفتتح عيادته الخاصة ويزاول مهنته لكن لمدة لم تطول، حيث عاد ليخوض الانتخابات النيابية وليفوز بمقعد نيابي في المجلس، ليخوض أهم تجاربه مع القضية الفلسطينية بجرحٍ نازفٍ للتوّ حيث قضت الأمم المتحدة بقرار التقسيم عام 1947 ليتشكل بشكل عاجل جيش الإنقاذ العربي في محاولة للحوْل دون تشكل الكيان الصهيوني على أرضٍ عربية.

ما كان من نائب مدينة الرقة عبد السلام العجيلي إلا أن انضم إلى جيش التحرير،لتتكشّف له لاحقاً خيباتٍ أودت إلى الخسارة المفجعة، سيدوّن العجيلي لاحقاً تجربته في العمل النضالي في كتابه "فلسطينيات"، وكتاب"نبوءات الشيخ سليمان"، وقد قيل في هذا الكتاب: "كلّما حدثت نكبة في البلاد العربية، اقرؤوا هذه القصة لتعرفوا أنّ كاتبها قد تنبأ بما يجري الآن".

يبتعد العجيلي عن السياسية ليعود إلى عيادته ويزاول مهنة الطب، رغم ذلك بقي العجيلي ذائع الشهرة والصيت لكونه أديباً أكثر منه طبيباً أو سياسياً.

في الطب كما في العمل السياسي، ترك العجيلي أثره الطّيب، حيث يحتسب له دوره في مكافحة شلل الأطفال في حقبة الثمانينات حيث انتشر المرض، سرعان ما شارك في حملةٍ جعلت من اللقاح مجانياً مما أتاح القضاء عليه بشكل نهائي تقريباً.

إبداع العجيلي يكمن أيضاً في جعل مكان عمله منجماً لأدبه، كما جعلت أسفاره المتعددة في مشارق الأرض ومغاربها سعياً وراء المعرفة، قصصَه على قدرٍ كبيرٍ من التنوع والغنى.

نتاج العجيلي الأدبي بمجمله يتركّز على "القصة" كصنفه الأدبي المفضل، الذي ضمنه الشعر والفلسفة والسياسة. رغم كتابته لأجناس أدبية مختلفة. المراقب لنتاج العجيلي يلحظ ولعَه بالقصة، حيث يندر أن تقرأ مقالاً أو كتاباً أو تسمع محاضرةً له أو حتى جلسةً اجتماعيةً يحضرها العجيلي دون أن يرويَ قصةً توضّح ما يجول في خاطره من أفكارٍ بطريقةٍ جذّابةٍ وممتعةٍ بعيداً عن السرد الجاف.

يحقّ القول أنّ هذا القاصّ من الدرجة الأولى هو مؤسس فنّ الحكاية العربية. وقد جعل من مشاهداته خلال أسفاره التي اشتهر بها مادةً ثريةً أغنت قصصه مثل "دعوة إلى السفر" و "حكايات من الرحلات".

العجيلي الذي عشق الترحال والسفر حيث جاب العالم مِن آسيا إلى أوروبا والأمريكيتين بقي في داخله ذلك الفتى الأصيل الذي لا يطيق ابتعاداً عن مدينته الرّقة التي أهدى أهلها وسام الاستحقاق السوريّ من الدرجة الممتازةالذي ناله ورأى فيه تكريماً لأهل بلدته من خلاله ليس لأنه أفضلهم بل لأنّه واحد منهم.

أولئك الذين جاؤوا الحياةَ بهمّة مدهشة لا تخبو، مولعون بالحياة لا العيش. العجيلي أتقن كيف يحيا لا أن يعيش كغيره. تشرّب التفاصيل وأضفى روحه عليها وعاشها حتى الثمالة حتى قال: "لقد شبعت من الحياة، عشتها بكل ما فيها، وما عدت أرغب في المزيد"، فكان الوداع في 5 نيسان 2006 "محمولاً على سروج الخيل" كما يصف أهالي بلدته جنازته المهيبة.

عبد السلام العجيلي الأديب والطبيب والقامة الوطنية من الرّقة إلى كل العالم.

المصادر :

جروس. سعاد، صالح. نبيل، رواية اسمها سورية- الجزء الثاني، الطبعة الثانية، 2007.