الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع

اللامعيارية.. ماذا يحصل إذا فقدت المعايير مكانتها؟

أدركت المجتمعات البشرية حاجتها لتحقيق درجة معينة من التكامل بين أنظمتها، لتضمن لنفسها البقاء والاستمرارية، وعليه أصبح التكامل (Integration) سمةً أساسية لجميع المنظمات الاجتماعية، إذ ترتبط من خلاله أجزاء وعناصر المنظمة معاً سعياً منها للوصول إلى الشكل الكلي والنهائي لها (1)، وترتب على ذلك وجود حد أدنى من المعايير الأساسية التي يتقاسمها أفراد هذه المجتمعات بوصفها حصيلة للتراث الثقافي المشترك بينهم، لذا كان لابد أن تنشأ وتتطور أنواع مختلفة من الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية المعيارية بهدف جعل هذه القيم أكثر نفاذاً وفعالية (1).

 لكن غياب المعايير المتفق عليها أو حصول تضارب فيها أو غياب الشرعية عن الأنظمة المجتمعية؛ أو فقدان القواعد القانونية والأخلاقية لسلطة المحاسبة والعقاب؛ كل ذلك يشكل ظاهرة تهدد استقرار الأنظمة المعيارية ويضعف فعاليتها ونفوذها في المجتمع، وهو ما اصطلح على تسميته بـاللامعيارية أو الأنومي (Anomie) (2).

وكان عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم (Émile Durkheim 1917-1858) قد تناول هذه الظاهرة انطلاقاً من مبدأ تقسيم العمل (Division of Labor) على اعتبار أن تقسيم العمل يؤدي إلى التضامن (solidarity)، لكونه يخلق نظاماً كاملاً من الحقوق والواجبات التي تربط الأفراد ببعضهم البعض على نحو دائم، إلا أن هذا المبدأ قد لا يؤدي دوماً إلى تضامن اجتماعي، وقد يكون له أحياناً نتائج مختلفة، بل وحتى متناقضة، إذ رأى دوركهايم أنه لا يمكن للقواعد وحدها ولا القوة فقط أن تنتج التضامن في المجتمع كما في حالة "التقسيم القسري للعمل" لأنه من المحتمل أن يكون الظلم متأصلاً في كليهما (2).

ومع ذلك أيد دوركهايم الافتراض القائل بأن النظام المعياري للمجموعة هو المصدر النهائي للتنظيم الاجتماعي وهو ما يوجه ويقيد السلوك البشري فيها، ولكنه لم يكتفِ بذلك بل توسع في تفسيره لظاهرة "اللا معيارية" ووضع تصوراً لها على أنها تنطوي على انحراف الأفراد عن التنظيم المعياري الذي يفترض به توجيه سلوكهم  وتقييده، أو ببساطة لعدم وجود تنظيم سابق له زمنياً، فالتنظيم المعياري يمكّن الفرد من إدارة عواطفه ضبطها وإن غيابه سيؤدي بالأفراد إلى المعاناة المولدة لأعمال العنف بما فيها الانتحار (3)، وعليه خلص دوركهايم إلى سياقين مختلفين في تفسير "اللامعيارية"، فهي إما نتيجة محتملة للتطور غير الطبيعي لتقسيم العمل، والذي يشتمل على اللامساواة والصراع الطبقي والعلاقات الاجتماعية غير المتكافئة وغياب الأدوار المؤثرة للأفراد، وإما هي نتيجة اضطراب في النظام الجمعي القائم، الذي يفسر نوعًا من حالات الانتحار (2).

ويناقش كل من دوركهايم وعالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون (Robert K. Merton 2003-1910) في أثر التغير الاجتماعي على انتشار اللامعيارية، فمن وجهة نظر دوركهايم تطور المجتمعات خلال مسيرتها التطورية أنماطَ سلوك معيارية وأنظمة معتقدات، كما في حالة الانتقال من مجتمع ريفي إلى مجتمع حضري، إذ يؤدي نشر المعايير والقيم الجديدة إلى تعطيل توازن المجتمعات التقليدية وتفكك المؤسسات الدينية المقدسة والمعتقدات التقليدية وعلاقات المكانة الاجتماعية السائدة، وبالتالي يتمكن الأفراد من تحدي القيم الثقافية القديمة والقواعد الاجتماعية، بوصفها نتيجة للعلاقات الاجتماعية الجديدة، مما يؤدي إلى انتشار "اللامعيارية" بينهم (4)، ومن الأمثلة على ذلك انتقال بعض المجتمعات الأوروبية الشرقية من النظام الشيوعي إلى الأنظمة الديمقراطية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.

بينما افترض ميرتون أن "اللا معيارية" هي نتاج لعدم التوازن بين المكونين الأساسيين للمجتمع - البنية الثقافية والبنية الاجتماعية، وكمثال على ذلك، نلاحظ في مجتمع ديمقراطي مثل الولايات المتحدة، حصول إزالة للحاجز الثقافي للحركة الصاعدة في المجتمع، ولكن يبقى العائق الطبقي للحركة الصاعدة لدى الطبقة الفقيرة قائماً، لذلك غالباً ما يعاني أبناء هذه الطبقة من الإجهاد واللامعيارية لأن الثقافة الجديدة للنجاح الاقتصادي غير المحدود تشكل ضغطاً عليهم للبحث عن السبل الأكثر فعالية لتحقيق مستوى مادي يتناسب مع الثقافة الجديدة (4).

أما الآثار المدمرة لظاهرة "اللامعيارية" فتتمثل باعتبارها فشلاً في السلوك الأخلاقي فيما يتعلق بالالتزام بالمعايير وبالتالي فشل في تحديد السلوك الذي يجب أن يتصرفوا وفقه في حالة معينة، أي فقدان المعيار لمقابله السلوكي، بل أكثر من ذلك، يرى دوركايم أن السعي إلى الثروة والسيطرة والنجاح الاجتماعي هي نزعة بشرية تحتاج للضبط عبر التنظيم الاجتماعي لسلوك الأفراد، وفي حين يتحكم جسم الإنسان باحتياجاته، لابد من تنظيم احتياجاته الاجتماعية والعاطفية غير المحدودة، ولا يكون ذلك إلا من خلال القوة التنظيمية للنظام الأخلاقي في المجتمع (3).

وكان الانتحار من الظواهر التي ارتبطت دراستها باللامعيارية لدى دوركهايم، إذ رأى أنه للحفاظ على النظام الاجتماعي ينبغي إدارة وضبط العواطف لدى أفراده، فعدم التنظيم المعياري سيتسبب بـالمعاناة والألم لديهم بما يُدعى بالآلام المترتبة (consequent sufferings، والمتمثلة بدفع الأفراد المتضررين إلى أعمال العنف، بما في ذلك الانتحار والقتل، لذا حدد دوركهايم المعدلات السنوية لأعمال العنف بوصفه مؤشراً على انتشار اضطراب اجتماعي مرضي (3).

أخيراً نختم المقال بنتائج دراسة كندية عبر قومية (2010)، استهدفت 30 دولة حول العالم، وخلصت نتائجها إلى أن التغيير الاجتماعي والسياسي السريع على المستوى الكلي للمجتمع، كالانتقال السياسي من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي يرفع من معدل "اللامعيارية" بين الأفراد في المجتمع، كذلك وجدت الدراسة أن اللامعيارية كانت مرتفعة عند صغار السن وغير المتزوجين وغير الموظفين، وأنه كلما زادت مدخرات العائلة وثقة الأفراد في السلطة (الشرطة، والنظام القانوني، والحكومة) انخفضت درجة اللامعيارية لديهم (4).

المصادر:

1. Olsen ME. Durkheim's Two Concepts of Anomie. The Sociological Quarterly. 1965;6(1):37-44. Available from: هنا
2. Willis CL. Durkheim's Concept of Anomie: Some Observations. Sociological Inquiry. 1982;52(2):106-113. Available from: هنا
3. TenHouten WD. Normlessness, Anomie, and the Emotions. Sociological Forum. 2016;31(2):465-486. Available from: هنا
4. Zhao R, Cao L. Social Change and Anomie: A Cross-National Study. Social Forces. 2010;88(3):1209-1229. Available from: هنا
المصادر المستخدمة في مقدمة الفيسبوك:

1. مقاومة المضادات الحيوية [Internet]. Who.int. 2022 [cited 22 April 2022]. Available from: هنا