الفنون البصرية > فن المسرح

بدايات نشوء المسرح

في البداية لا بد لنا أن نقر بالحقيقة القائلة إن الإغريق وحدهم من بين الشعوب القديمة الذين عرفوا الدراما في أكمل صورها، وأن أي مسرح عند غيرهم من القدامى أو الحديثين وصل إلى مرحلة من النضج يدين لهم بوجوده.

إن شعوبًا أخرى كثيرة عرفت ما قد يعده بعض الدارسين غير المدققين مسرحًا، وفي الواقع فإن كل الفنون الشعبية لدى الحضارات القديمة جميعها دون استثناء تقريبًا تتضمن نُواة الدراما، لكن هذه النواة لم تتطور لدى الشعوب القديمة إلا في بلاد الإغريق، وذلك بسبب أن بذور الدراما كانت في طريقة تفكيرهم وأسلوب حياتهم ورؤيتهم الأشياءَ، وهذا ما يظهر واضحًا في أساطيرهم وملاحمهم (1).

 إذا كان الفن والأدب ينبعان عند الشعوب القديمة بصفة عامة من الشعور الديني الوجداني فإن الدراما الإغريقية لا تشكل استثناء عن هذه القاعدة بل تؤكدها، فمن المعروف أنها نشأت من عبادة الإله ديونيسوس الذي يمثل كل قوى الإخصاب في الطبيعة، ولذلك كان عضو الذكورة (phallos) رمزًا مهمًّا في طقوس عبادته.

وأقيمت مهرجانات دينية عديدة تكريمًا لديونيسوس وكان أكثرها اتصالًا بالدراما تلك التي كانت تقام في إقليم أتيكا، وكان للمهرجانات الأتيكية نوعان:

  1. تقام مهرجانات النوع الأول أيام الربيع عندما يكون نبيذ الموسم الماضي جاهزًا (ومنها تطورت إلى التراجيديا).
  2. تقام مهرجانات النوع الثاني شتاءً بعد انتهاء أعمال الزراعة السنوية، ويحل موسم الكروم وجني الفواكه (ومنها تطورت الكوميديا).
 وكان الاحتفال في هذين النوعين بسيطًا لا يعدو عن كونه مجرد تجمهُر ريفي من أجل تكريم ديونيسوس والتضرع إليه آملين أن يطرح البركة في جهودهم الزراعية، وأن يزيد خصوبة أراضيهم وبساتينهم.

فيسير موكب من هؤلاء الفلاحين إلى مذبح ديونيسوس لتقديم القرابين، وتقام الرقصات، وتؤدى الأغاني تكريمًا للإله (1-3).

ترتبط المهرجانات الأتيكية الشتوية بنشأة الكوميديا، وفي هذه الاحتفالات يسير موكب المعربدين مرددين أغنية للإله تسمى "الأغنية الفاللية"، وبين الحين والحين كان قائد الموكب يسلي المشاهدين بإلقاء بعض النكات البذيئة التي يرتجلها ارتجالًا سواءً في هيئة مونولوج طويل، أو ديالوج؛ أي حوار مع بعض المغنين من معه في الموكب، ومن هذا الخليط الذي يمزج الأغاني والنكات والمونولوج والديالوج نشأت "الكوميديا". 

ومع الوقت تخلصت الكوميديا من أغلب مظاهر البداوة والغلظة هذه، وإن ظلت تحتفظ ببعض سماتها حتى النهاية كما يبدو من مسرحيات أريستوفانيس.

أما التراجيديا فقد ولدت في المهرجانات الربيعية، عندما كان الريفيون يلتقون في حشد كبير لافتتاح براميل الخمر الجديدة، ويرحبون بخصوبة الطبيعة المتجددة ممتدحين ديونيسوس مانح الخيرات في أغنية تسمى "الديثورامبوس" التي نشأت منها التراجيديا بشهادة أرسطو نفسه. 

والديثورامبوس أغنية جماعية تؤديها الجوقة في طقوس عبادة الإله، الموضوع الرئيس لكلمات الأغنية هو أسطورة ديونيسوس وعرض بعض المراحل من حياته بأسلوب غنائي بواسطة التنكر، أو المحاكاة بالكلمة والحركة، كي يجعلوا الأحداث التي يسردونها أقرب إلى التصديق والحيوية (1,4).

الديثورامبوس كان مجرد أغنية فولكلورية تقليدية أكثر من كونه ضربًا من ضروب الأدب الرسمي، ذلك أن القائمين بالغناء والرقص كانوا من الفلاحين؛ أي الأفراد العاديين، الذين يفعلون ما يفعلون تطوعًا وبصورة تلقائية في احتفالاتهم الدينية بالريف، ثم شذبه شعراء ماهرون ومغنون وراقصون محترفون، ودخل في الشعر الرسمي ذي القيمة الأدبية العالية، وهذا ما يحدث عادة فيسائر فنون الأدب الشعبي (1).

في بادئ الأمر لم يكن الإنشاد في الأغنية الديثورامبية ثابتًا بل كان مرتجلًا، ولكن فيما بعد أُدخلت عليه بنية محددة وبدل الارتجال فُرِضَ نص شعري ظل ذو طابع غنائي، ويؤدون إنشاده بصوت واحد دون أن تتخلله أي مفارقة درامية، لكن سرعان ما انقسمت الجوقة إلى قسمين أحدهما يسأل والأخر يجيب وكانت هذه الجوقة هي العنصر المسرحي الوحيد (1-4).

ثم جاء (ثيسبيس) الذي ابتكر الممثل الأول، وأوجد حوارًا بينه وبين الجوقة، ومع الوقت أصبح للمسرح وظيفته الخاصة، وأخذت الدولة على عاتقها عبء التنظيم، وكلفت واليًا لتنظيم المسابقات الدرامية وظيفته جمع الأموال لتنفيذ المشروع، كان يُختار ثلاثة شعراء تراجيديين للتسابق يقدم كل منهم رباعية (عبارة عن ثلاث تراجيديات ودراما ساخرة) عندما تكون المسابقة عن التراجيديا، أو خمسة شعراء هزليين (يشارك كل منهم بكوميديا واحدة)، ويختار علاوة على ذلك الجوقات والممثلين، وكان المؤلف الفائز يتوج وسط حماس الجمهور، وتعترف اليونان كلها بمجده (3-1).

بعد إدخال الممثل الأول على يد (ثيسبيس) زاد (اسخيليوس) عدد الممثلين إلى اثنين مما أدى إلى زيادة الحوار، ومن ثم التقليص من دور الجوقة، ومن أشهر مؤلفاته "ثلاثية الأورستا " التي تتناول أسطورة "أجاممنون وابنه أورست" (2,1).

هنا

أما (سوفوكليس) فزاد الممثلين إلى ثلاثة، وهو من أدخل المناظر المرسومة، وانتقلت الجوقة عنده من دور الشخص المشارك في الحدث إلى دور المعلق عليه، واهتم بإظهار الطبيعة البشرية بكل انفعالاتها وعواطفها فانتقل مركز الثقل من قضايا الدين والأخلاق، إلى قضايا الطبيعة البشرية، أشهر ما قدمه مسرحية "أوديب ملكًا" ومسرحية "انتيغون" (3-1).

*لوحة ل انتيغون تدفن أخاها.

هنا;

و(يوربيدس) الذي عدّل على الأسطورة بما يتوافق مع ما ينوي تقديمه على المسرح، فإما أن يضيف أو أن يحذف بما يخدم هدفه مثال على ذلك مسرحية "إلكترا" ومسرحية "أيون" (2).

إن ما وصلنا من نتاج المسرح الاغريقي لا يعد سوى فُتات من مائدة كانت ضخمة وحافلة؛ إذ فُقِد معظم الأعمال المسرحية، ولذا وعلى الرغم من عظمة ما وصلنا من أدب هذه الحضارة، لكن تقييمنا إياه يبقى غير مكتملٍ؛ لأنه يقوم على أساس المؤلفات التي وصلت إلينا فحسب.

تعديل الصورة: amal garip

المصادر:

1. عثمان أ. الأدب الإغريقي تراثًا انسانيًا وعالميًا. الطبعة الثالثة. القاهرة: أحمد عثمان؛2001.
2. Pandolfi V. Histoire du théâtre. Verviers: Gerard & Co. 1968. 

3. Halliwell S. Aristotle's Poetics. Cambridge, Mass: Harvard University Press; 1995. Available from: هنا

4. Sophocles, Wunder E, Wecklein N. Sophoclis Tragoediae. Lipsiae: Teubner; 1889. p. 486. Avaliable from: هنا