الفنون البصرية > أيقونات فنية خالدة

اليوناني وقصة دفن حاكم مدينة أورغاز

دومينيكوس ثيوتوكوبولوس (Domenikos Theotokopoulos) أو المعروف باليوناني El Greco ولد في عام 1541م في مدينة كانديا عاصمة جزيرة كريت اليونانية، تدرب ليصبح رسامًا للأيقونات البيزنطية، وانتقل في عمر السادسة والعشرين إلى فينيسيا في إيطاليا ليتمرَّس بأسلوب النمط الحديث للنهضة الغربية الفنية، وعمل في خلال هذه المدة لدى تيتان (Titan).

بقي في فينيسيا في الحقبة الممتدة من 1568 حتى 1570م، وانتقل بعدها إلى روما وكان متأثرًا جدًا بالألوان الغنية والرسم الحر للفنانين الفينيسيين، وذلك قبل أن يستقر في مدينة توليدو (Toledo) في إسبانيا عام 1577م، ليعمل لدى الملك فيليب الثاني وبقي هناك حتى وفاته في عام 1614م.

كانت الحقبة الممتدة بين 1597-1607م حقبة نشيطة جدًا في حياة El Greco الفنية؛ إذ عمل عددًا من الأعمال التصويرية والمنحوتات لمؤسسات دينية عدة، كان El Greco معروفًا برسمه للَّوحات الكنسية والدينية وأصبح بعد وفاته مصدر إلهام لكثير من الفنانين في القرن العشرين مثل بابلو بيكاسو الذي وجد الإلهام في تحريفات El Greco لشكل جسم الإنسان (1,2).

أما لوحتنا التي سنتكلم عليها في هذا المقال فهي لوحة دفن كونت مدينة أورغاز (The Burial Of The Count Of Orgaz)، وهي لوحة هائلة تصور عددًا كبيرًا من الأشخاص الحُزناء على وفاة السيد غونزالو رويز (Don Gonzalo Ruiz) أو كما عُرف لاحقًا بكونت أورغاز (Count Of Orga) الذي توفي في عام 1323م، إذ مُنح بعد وفاته ترقية من رتبة سنيور إلى رتبة كونت، كذلك كان السيد غونزالو جنديًا محبًا للخير ورجلًا نبيلًا وحاكمًا لمدينة أورغاز (Orgaz) في إسبانيا، ووفقًا لوصيته فقد دفن في كنيسة (Saint Thomas) ووُضعت هذه اللوحة في الكنيسة نفسها فوق ضريح هذا الكونت النبيل (1,3).

دارت قصص محلية عدة حول واقعة دفن الكونت في القرن الرابع عشر، منها القصة العجائبية لملابسات دفنه، إذ يقال إنه بعد وفاة الكونت أنزله القديسان أوغسطين وستيفان داخل قبره إجلالًا وتكريمًا لأعماله الصالحة، وبقيت هذه القصة منتشرة في مدينة توليدو لتصبح مصدر الإلهام للفنان El Greco لرسم لوحة دفن الكونت أورغاز.

نرى في منتصف اللوحة وأسفلها القديس أوغسطين في اليسار والقديس ستيفان في اليمين وهما يحملان الكونت ويودعانه في القبر، تذكرنا هذه الحركة باللوحات التي تصور دفن السيد المسيح التي ربما استوحى El Greco موضوع لوحته هذه منها، لتأكيد وقار وهيبة هذه اللحظة وطبيعة الدفن العجيبة للكونت بحد ذاتها.

يظهر في هذا المشهد أيضًا شخصيات دينية عدة يلبسون ملابس سوداء مزينة بصلبان حمراء ومن بينهم كاهن كنيسة (Saint Thomas)، فنرى اهتمام El Greco الكبير بتفاصيل ثياب الشخصيات، ولم يخلُ درع الكونت المتوفى من هذا الاهتمام وذلك فيما نراه من انعكاسات ضوئية عليه، يقف يسار القديس أوغسطين شاب صغير يقال إنه ابن El Greco مشيرًا إلى القديسين وهما يخفضان جسد الكونت، لافتًا نظرنا إلى الموضوع الأساسي في اللوحة.

وخلف القديس ستيفان وأعلى منه نرى شخصًا متفرجًا هو بالحقيقة El Greco نفسه، ولأنه كان بارعًا في رسم الصور الشخصية فإن هذه اللوحة استثنائية نظرًا إلى عدد الشخصيات الموجودة فيها بتوليفة معقدة، وهم أشخاص عدة من النخبة والنبلاء المعاصرين لـ El Greco احترامًا لهم فكان بذلك جامعًا الروحانية مع التاريخ برسمه لهؤلاء الأشخاص مع القديسين.

أما القسم العلوي من اللوحة فنرى فيه تصويرًا للمملكة السماوية ويظهر فيها السيد المسيح ومريم العذراء ويوحنا المعمدان مع الملائكة والقديسين، ونرى بين السيد المسيح ومريم العذراء ملاكًا يرشد روح الكونت التي تبدو كطفل صغير إلى الأعلى وهي حركة كانت معروفة في الأيقونات البيزنطية، إذ إن روح الكونت سوف يُحاكمها السيد المسيح الذي يترأس المشهد كاملًا مذكرًا الناظر إلى هذه اللوحة بأنه أيضًا سيُحاكَم في وقت ما.

يختلف أسلوب El Greco في استعمال الألوان ما بين القسمين العلوي من اللوحة والسفلي منها، إذ إنه استعمل في القسم العلوي ضربات أوسع للفرشاة ليعطي الشخصيات انطباعًا سماويًّا وديناميكيًّا، مختارًا ألوانًا باردة كالفضي والليلكي ليظهر الوميض ويعكس الضوء، أما القسم السفلي فهو الأغمق، استعمل فيه ألوانًا أرضية معطيًا هذا الجزء مظهرًا طبيعيًا.

ويظهر الاختلاف بين القسمين واضحًا أيضًا من خلال طريقة الرسم، فإن شخصيات القسم العلوي مرسومة بطريقة زاويَّة وممدودة لتعطي انطباعًا روحيًّا غير ماديًّا وخصوصًا بسبب الأشكال الضئيلة الناعمة بين الغيوم، على عكس ما يبدو في القسم السفلي بما فيه من مجموعة الأشخاص التي تحيط بالكونت مكوِّنة نسيجًا متحركًا باتجاه الجزء السفلي من اللوحة برؤوسهم التي ترسم خطًّا أفقيًّا مستقيمًا معطية شعورًا بالاستقرار والثبات، مختلفة بذلك كليًّا عن الجزء السماوي من اللوحة حيث الغيوم الصاعدة التي تعطي إحساسًا بالحركة والتدفق (1).

نفَّذ El Greco هذه اللوحة بأسلوب التكلُّف (The Mannerism) الذي كان مطروقًا جدًا في تلك الحقبة، إن هذا المصطلح مشتق أساسًا من الإيطالية (Maniera) التي تعني النمط أو الأسلوب، وهو يُعرف أحيانًا بالأسلوب الأنيق، لتأثيره الشديد في الوعي الذاتي للتصوير الواقعي، وهو يُعد تعبيرًا غير منطقي عن المساحة والنسب الممدودة والتشريح المبالغ فيه للأشخاص والوضعيات الملتوية فتبدو اللوحات غريبة ومشوشة.

بدأ هذا الأسلوب بالظهور قرابة عام 1520م بدايةً في فلورنسا وروما وبعدها انتشر في كل مناطق وأرجاء إيطاليا ومنها إلى شمال أوروبا، حيث كان يُنتقد الفنانين الذين يتبعون هذا الأسلوب بحجة كسرهم لوحدة النهضة الكلاسيكية وطريقة دمجها بين الشكل والمحتوى وموازنتها بين الأغراض الجمالية والفكرة، إذ يرى بعض الباحثون أن أسلوب التكلُّف هو ردة فعل على حركة النهضة الكلاسيكية، بينما يرى آخرون أنه امتداد منطقي لها (4).

أما الذين يتبعون هذا الأسلوب فهم المتأثرون بأسلوب رافاييل ومايكل أنجلو وكبار الفنانين في عصر النهضة، حتى إنهم أحرزوا تقدمًا بأن ابتكروا تراكيب مختلفة بدرجة عالية أظهرت تقنياتهم وفي التلاعب في العناصر التركيبية ليخلقوا مشهدًا من الأناقة الفنية المعقدة (5).

معلومات اللوحة:

تاريخ رسمها: 1586-1588م

خاماتها: زيتي على القماش

أبعادها: 480*360 Cm

مكان وجود اللوحة: كنيسة Saint Thomas في إسبانيا

المصادر:

1. Kilroy-Ewbank L. El Greco, Burial of the Count Orgaz (article) | Khan Academy [Internet]. Khan Academy. [cited 28 July 2021]. Available from: هنا

2. El Greco [Internet]. National Gallery of Art. [cited 28 July 2021]. Available from: هنا

3. Burial of the Count of Orgaz by El Greco [Internet]. El-greco.org. 2019 [cited 28 July 2021]. Available from: هنا

4. Mannerism [Internet]. National Gallery of Art. [cited 28 July 2021]. Available from: هنا

5. Mannerist – Art Term | Tate [Internet]. Tate. [cited 28 July 2021]. Available from: هنا