الجغرافيا البشرية والعلوم الإقليمية > التخطيط والجغرافيا الإقليمية

البرازيل والسعي نحو تحقيق التوازن الإقليمي

ارتبطت عملية التوسُّع الحضري في البرازيل ارتباطًا وثيقًا بالتصنيع؛ إذ شهدت ستينيات القرن الماضي تحوَّل البرازيل من بلدٍ زراعيٍّ بحت إلى قوةٍ صناعية، وشهدت حينها مستوياتٍ عاليةً من الهجرة من الريف إلى المناطق الحضرية، ورسمت هذه الهجرات المعالم الأساسية لعملية النمو الحضري السريع التي حدثت في جميع أنحاء البرازيل في العقود الأخيرة. وكانت هذه الهجرة الداخلية من الشمال الشرقي إلى الجنوب الشرقي الهجرةَ الأكبر، بسبب تركُّز الصناعات على نحو رئيسي في الولايات الجنوبية، وأصبح شمال شرق البرازيل الفقير يشكِّل تناقضًا صارخًا مع وضع الولايات المتقدمة في الجنوب الشرقي، فقد كان تاريخ النمو الحضري البرازيلي متشابكًا على نحوٍ وثيق مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والديموغرافية التي مرت بها البلاد، ولا سيِّما في القرن الماضي (1).

في العام 2010م تجاوز عدد سكان البرازيل 190 مليون نسمة (1,2)، وسكن معظمهم بالقرب من الساحل تاركين المناطق الداخلية في البلاد خالية، وتوضَّع الجزء الحيوي من البرازيل في المنطقة "ذات الشكل المثلَّث" بين ريو دي جانيرو (Rio de Janeiro)؛ العاصمة القديمة على الساحل والميناء الرئيسي، وساو باولو (São Paulo)؛ المركز الصناعي والمالي الرئيسي في البلاد، وبيلو هوريزونتي (Belo Horizonte)؛ المركز الصناعي الذي يعتمد على التعدين في المناطق المحيطة، وشكَّل هذا المثلث القلب الاقتصادي للبرازيل ومركز الصناعة والأعمال والتجارة (1).

استمرَّت المدن الكبرى بجذب الناس من جميع أنحاء البرازيل، وازداد عدد سكانها بسبب مزيج من الهجرة الداخلية وارتفاع معدَّل المواليد، وقد اتَّبعت الحكومة البرازيلية منذ العام 1960م سياسة فتح المناطق الداخلية لتنمية مواردها الخشبية والمعدنية وتشجيع الناس على الابتعاد عن المدن الساحلية المكتظَّة، ولكنَّ الكثافة السكانية الإجمالية بقيت منخفضةً جدًّا. وقد تمتَّعت المدن البرازيلية بالتمايز الوظيفي فيما بينها؛ إذ تركَّزت الصناعات ذات الصلة بالكمبيوتر والخدمات المالية في ساو باولو، واعتمد اقتصاد فلوريانوبوليس (Florianópolis) على تكنولوجيا المعلومات والسياحة والخدمات، وتخصَّصت كوريتشيبا (Curitiba) بالميكانيك والكيمياء وصناعة الفولاذ، أما المنطقة الشمالية الشرقية؛ أفقر مناطق البلاد، فقد اعتمد اقتصادها على إنتاج السكر والكاكاو والورق والقطن وتربية الماشية (1).

فما الإستراتيجيات التي اتبعتها الحكومة البرازيلية في تخطيط المناطق الحضرية؟

من سياسات التنمية الحضرية المستدامة التي اتبعتها الحكومة البرازيلية؛ إنشاء مدن جديدة والذي تمثَّل في إنشاء العاصمة الجديدة برازيليا (Brasília) في الستينيات من القرن العشرين، إذ لم تنشأ هذه المدينة عفويًّا نتيجة العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتأصِّلة في البيئة الحضرية، بل كانت فكرةً تحولت إلى تصميم، فهي مدينةٌ مخطَّطٌ لها مسبقًا. ولتنفيذ العاصمة الجديدة، طلبت الحكومة الفيدرالية نقل العاصمة من ريو دي جانيرو (Rio de Janeiro) إلى المدينة الجديدة، وتصوَّرت حينها خطةً لاحتواء 500,000 نسمة، إلى جانب طريق وخط سكة حديد يربط بين برازيليا (Brasília) وأنابوليس (Anápolis)؛ مع أخذ موقع المطار الموجود مسبقًا في المنطقة الجنوبية الغربية من المقاطعة بالحسبان. واستكمالًا لدورها الجديد نُفِّذت شبكة الطرق الواسعة على كامل الإقليم لتكون جزءًا من الخطة الوطنية للطرق السريعة، والتي كانت برازيليا (Brasília) مركزًا لها، واتَّبع المشروع أيضًا إرشادات المدن الحدائقية والتي تتميز بنسبةٍ كبيرةٍ من المساحات الخضراء والمفتوحة والإشغال المنخفض الكثافة، ولكنَّ السياسات التي اتُّبعت في تخطيط هذه المدينة وتنفيذها أدَّت إلى العديد من مظاهر التجزئة والفصل الاجتماعي (3).

أما مدينة كوريتشيبا (Curitiba)؛ عاصمة ولاية بارانا (Paraná) في جنوب شرق البرازيل فقد اتَّخذت مسارًا تخطيطيًّا مختلفًا، إذ كانت إحدى أسرع المدن نموًّا في البرازيل، (من 300,000 نسمة في العام 1950م إلى 2.1 مليون في العام 1990م)، وقد تغيرت قاعدتها الاقتصادية جذريًّا في هذه الفترة إذ أصبحت قوةً صناعيةً وتجاريةً مهمة، واعتمد أسلوب التنمية الحضرية في كوريتشيبا (Curitiba) تفضيل النقل العام على السيارات الخاصة، والعمل مع البيئة، واللجوء إلى الحلول المناسبة بدلًا من الحلول عالية الكلفة أو الحلول التقنية. وحوَّلت المدينة العديد من ضفاف الأنهار إلى حدائق، وشُيِّدت بحيرات اصطناعية وزُرِعت الحدائق بالأشجار، وأعيد تأهيل المصانع المهجورة والمباني الأخرى الواقعة بجانب مجرى النهر وحُوِّلت إلى مرافق رياضية وترفيهية، وساهمت مسارات الحافلات والدراجات الجديدة أيضًا في دمج المتنزهات مع نظام النقل في المدينة. وبفضل التخطيط الجيد لأنظمة النقل العام؛ تمكَّن سكان كوريتشيبا متوسطو الدخل من إنفاق قرابة 10% فقط من دخلهم على النقل، وهو رقم منخفض نسبيًّا في البرازيل، وتمتَّعت المدينة بأحد أقل معدلات تلوث الهواء المحيط في البلاد، وتميَّزت بالمشاركة الشعبية لسكانها في الممارسات البيئية (4).

فهل أدت السياسات والإستراتيجيات التي اتُبِعت في بعض المدن البرازيلية إلى تعزيز التناقض وعدم التوازن بينها؟ أم أنها ساهمت في تقليص الفجوة والتمايز الحضري؟

إعداد: Huzaifa Al Hussain

المصادر:

1_Ignazzi CA. The Brazilian Urban System: the trajectories of Brazilian cities between general dynamics and specific peculiarities. Cybergeo: European Journal of Geography [Internet]. 2015 [cited 8 December 2020];754. Available from: هنا

2_Population, total - Brazil | Data [Internet]. Data.worldbank.org. [cited 29 December 2021]. Available from: هنا

3_Costa C, Lee S. The Evolution of Urban Spatial Structure in Brasília: Focusing on the Role of Urban Development Policies. Sustainability [Internet]. 2019 [cited 8 December 2020];11(2):553. Available from: هنا

4_Rabinovitch J, Leitman J. Urban Planning in Curitiba: A Brazilian city challenges conventional wisdom and relies on low technology to improve the quality of urban life. Scientific American [Internet]. 1996 [cited 8 December 2020];274(3):46-53. Available from: هنا