التاريخ وعلم الآثار > منارات ثقافية

وفي قاهرة المعز كانت دار العلم ... منارة للانسانية

أصبحنا في القرن الرابع الهجري العاشرالميلادي، حيث الدولة الواحدة باتت عدة دول، وكان على كل دولة في المشرق والمغرب إثبات الجدارة والتفوق على الأخرى، وكانت مكتبة دار الحكمة في بغداد وأكاديميتها العملاقة والشهيرة نقطة التفوق والإبداع الخاصة بالخلافة العباسية في بغداد، لتكون بذلك أقوى دول العالم الإسلامي علميا وأكثرها ازدهارا.

هذا وليس بعيدا عن بغداد، كان هناك دولة تنافس العباسيين في هذا السباق المحفوف بالمخاطر، إنهم الفاطميون في مصر وقاهرة المعز، حيث دائما ما كانوا يأتون في معايير التنافس كمركز ثاني خلف العباسيين ومكتبتهم، الأمر الذي جعل الخلفاء الفاطميين في حالة من التأهب والتركيز المستمرين. (ص100، 9)

ولادة المكتبة:

كان بناء جامعة الأزهر في القاهرة بأمر من المعز الفاطمي إيذانا مبكرا بولادة مدينة ثقافية عملاقة، "قاهرة المعز"، كما يحب المؤرخون تسميتها، كان تأسيس جامعة الأزهر في عام 970م لابد أن يترك الأثر الواضح على قاطنيها فيرتفع معدل الثقافة والمعرفة، ويصبح عامة الناس أكثرهم يملكون معرفة ضليعة في أمور اللغة والعلم، ما جعل القاهرة ترتقي نحو منزلة تجعل منها منافس أشد وأقوى مع بغداد وتجعل الفاطميين منافس مع العباسيين، وبات على طالب العلم أن يكون حائرا أيذهب للشرق وبغداد دار السلام أم للغرب وقاهرة المعز. (ص49، 4)

وتابع من بعده خليفة آخر ،اهتم بالعلم ولكن هذه المرة على مستوى موازي للجامعة، كان العزيز الفاطمي (975-996) خامس الخلفاء الفاطميين، رجلا محبا للقراءة، جمّاعا للكتب، كان يرى في الخلفاء العباسيين منافسين شرسين في عالم السياسة وذلك لفرط ثقافتهم، كيف لا وبينهم الرشيد والأمين والمأمون والمتوكل، كان عليه أن يرى طريق الحكم بمقاليده الثقيلة من باب الحاكم الأفضل، وأن الأفضل هو الأغزر معرفة والأكثر حكمة، فوجد في نفسه إرادة قوية وتوجه واضحا نحو جمع الكتب، فأسس في قصره مكتبة كبيرة خاصة به (ويالا المفاجأة، فكل مكتبة عظيمة في تاريخ الحضارة الإسلامية يكون أصلها خليفة ملم بالعلم ومحب للقراءة) ويذكر التاريخ أن العزيز الفاطمي كلف وزيره يعقوب بن كلس بجمع الكتب من سائر الأمصار ليكون مستشاره العلمي ووزير المعرفة في عهده. (ص49، 4).

ولنذكر شيئا مما كانت عليه المكتبة، فيقدر البعض أن عدد الكتب بلغ 200.000 كتاب وروابة أخرى تذكر أنه كان فيها 600.000 كتاب ومن ضمن ما كان فيها 240 نسخة من القرآن مزينة ومجلدة بشكل جيد بالإضافة إلى 1800 مخطوطة حوال العالم القديم (وخصوصا الفرعنة) ما حدا بالمستشرقة الألمانية زاغريد أونكه المعروفة في كتابها "شمس العرب" بأن تقول "لا أحد يستطيع أن يقارن نفسه بالخليفة العزيز في القاهرة" وأضافت: "حوت مكتبة العزيز 1.600.000مجلد فكانت بذلك أجمل وأكمل دار ضمت 6500 مخطوطة في الرياضيات و 18000 في الفلسفة" (ص153، 8).

ونختم هنا قبل وفاة العزيز الفاطمي أن مكتبته كانت مؤلفة من أربعين خزانة من خزائن القصر (ص50، 4).

رب ضارة نافعة:

جاء عصر الخليفة الحاكم بأمر الله بمعضلة لا تترك دولة إلا وتأتي على أركانها، وهي الحروب الطائفية. مرت مكتبة دار العلم الفاطمية من تاريخ حافل بالتقلبات عبر 172 عام (ص105، 5) .

وتسللت إلى مصر حالة من الخلافات الطائفية التي بدأت تهدد المجتمع المصري من خارج البلاد، لم تكن مجرد حملة بل وبدأ تبادل الكلام في الطرقات والأسواق، كان على الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي أن يوجد حلا يشغل به العلماء عن الخلافات الطائفية، فيروي المسبحي – مؤرخ الحقبة الفاطمية في مصر – أنه في نيسان من عام 1005 م أمر الخليفة الحاكم بأمر الله بإنشاء دار للعلم في القاهرة، تلك الدار التي كانت وظيفتها صرف الشباب عن النقاشات في أمور الفقه والأمور الطائفية إلى العلم والدراسة والبحث (ص106-107 بتصرف، 5).

وكانت دار العلم بجوار القصر الغربي مكان إقامته خلف خان مسرور، وذلك حسب وصف القلقشندي (ص107، 5) بنى لها بناءً كبيراً وزوده بعدد ضخم من الكتب في شتى العلوم والفنون وقسم المكتبة إلى أقسام (ص206، 5) وفرشها بأفخر الأثاث وزخرفت جدرانها وعلقت لها الستائر على جميع الأبواب والممرات (ص108، 5).

وكان الخليفة قد ورث عن العزيز الفاطمي مكتبته آنفة الذكر، فأورد كل كتبها إلى المكتبة، فكان فيها من أنفس الكتب وأفضلها في ذلك الزمن فكانت تضم – كما ذكر المسبحي – كتب من جميع العلوم والآداب، أودعها الخليفة في دار العلم (ص108، 5)

وهنا نذكر حال الكتب فكانت من أفضل الأنواع منسوخة على يد أمهر النساخين واستخدموا فيه الخط المنسوب وكانت من الكثرة والجمال بحيث يقول عنها الدكتور يوسف العش: "لا نظير لها عندي أي خليفة غيره" (ص109، 5)

ويعتقد الدكتور الصوفي أن هذه المكتبة كانت أضخم المكتبات العامة والأكاديمية في تاريخ المسلمين، فكانت مركزا للبحث والمناظرة حوت عشرات الآلاف من المصنفات، في الفقه واللغة والفلسفة والحديث والتفسير والفلك والكيمياء وعلوم أخرى كثيرة (ص207، 2).

ويقول الكتور العش: "منذ فتحت هذه المكتبة أبوابها سارع الناس إليها من كل الطبقات ودون تمييز وكانت للجميع فصاروا يترددون عليها للقراءة والنسخ والنقل وكان العمل فيها ميسرا إذ توفرت فيها أدوات الكتابة كالورق والحبر والأفلام ووضعت تحت تصرف الباحثين (ص109، 5)

وقد ذكرنا أن المكتبة كانت مقسمة إلى أقسام نذكر منها: قسم للفقهاء، وقسم لقرًاء القرآن الكريم وقسم للمنجمين (علماء الفلك) زآخر للنحو واللغة، وآخر للأطباء (ص154، 8) .

وكان هناك غرضان واضحان من إنشاء هذه المكتبة:

- تحويل أنظار عامة الناس عن الحرب الطائفية وشغل الشباب بالعلم (ص105، 5)

- مساعدة سائر طبقات المجتمع في التعليم والتحصيل مما جعلها معهدا أكاديميا ينافس بيت الحكمة في بغداد (ص154، 8).

وخصص الحاكم بأمر الله منذ البدء قسما من أملاكه الخاصة ليعود ريعها لصالح المكتبة. (ص154، 8)

حصلت هذه المكتبة على اسمين يميزان كل مرحلة من مراحل تطورها، فبينما كانت في عهدة الخليفة الفاطمي، كان اسمها (بيت الحكمة ) كتحدي ومنافسة لدار الحكمة الخاصة بالعباسيين في بغداد (إقرأ المقالة الأولى في السلسلة لتعرف الفرق بين الدار والبيت والخزانة) وهي بالتالي كانت مكونة من قاعة واحدة وكتبها في مكان واحد (ص153، 8) وفي عهد الحاكم بأمر الله تطورت، فأفرد لها الخليفة دارا خاصة كما ذكرنا، وكان في هذه الدار عددا من القاعات، وكانت كبيرة جدا، لتحظى بلقب جديد كان حقا لها وهو "دار العلم" (ص154، 8)

ويبدو أن الخليفة أعجبه ما سمعه عن بيت الحكمة زمن المأمون، فسعى إلى إقامة أجنحة كالفنادق ليقيم فيها الباحثون القادمين من خارج القاهرة، كما أجرى المكافآت والحوافز للباحثين تدفع لهم من خاصة مال الخليفة من بيت مال المسلمين (ص110، 5)

وقد أُجريت الأرزاق للأطباء والمنجمين (علماء الفلك) والنحويين واللغويين ووفر لهم ما يحتاجون من حبر وورق كما شجع على إقامة المناظرات العلمية بين رجال العلم واللغة وكان يحضرها بنفسه وهو بالتالي كان يفعل نفس ما كان يفعله المأمون في دار الحكمة ببغداد وهذا إن دل على شيء فهو يدل على حجم التنافس والسباق بين الخلافتين (ص155، 8)

وأمر الخليفة بإنشاء مجالس المحاضرة والمناظرة في المكتبة وكانت المواضيع العلمية وآخر الاختراعات أبرز مواضيع النقاش (ص110، 5).

والتشابه كان واضحا بين المكتبتين، فكانت تمتاز بكل ما تميزت به دار الحكمة باستثناء الترجمة والتأليف (ص113، 5)

بل وتفوق في أمور عديدة عن مكتبة دار الحكمة فكانت أكبر وأوسع منها وخصص لها بناء مستقل ضخم ما حدى الخليفة بتسميتها – وكان مصيبا في ذلك – بـ "الدار" والتي هي أكبر من الـ "البيت" التي توصف للمكتبات الأصغر حجما، ولكن ما عدى ذلك التشابه واضح بينهما وخصوصا العلماء المتخصصين في كل فروع المعرفة فيتناظرون أمام الخليفة فيما برعوا فيه من العلوم (ص114، 5).

وبلغت المكتبة من الاتساع مبلغا كبيرا سنة 1009 م، وفي هذا العام بالذات صدرت قرارات الوقف كثيرة من الخليفة الحاكم بأمر الله والتي شملت جامعة الأزهر الشهيرة وجامع المقياس غيرها، وقرار الوقف عند المسلمين يعني تحويل الصرح أو المكان الموقوف لخدمة عامة المسلمين وتنفق الدولة على هذه الصروح أي أن الصرح يتحول من ملكية خاصة إلى عامة، ومن بين تلك القرارات صدر "صك الوقف" الخاص بدار العلم وبالتالي تحولت المكتبة إلى مكتبة عامة (ص115، 5)

وتنوعت اختصاصات الباحثين الذين كانو يقصدون المكتبة وأجمع المؤرخون على شمولية الاختصاصات واتساعها وكان جمهور القراء "والمستفيدين من المكتبة" من جمهور الفقهاء والقراء والفلكيين والنحويين واللغويين والأطباء (ص109، 5)

وقد أباح الخليفة المطالعة لجميع الناس، وجعل للعاملين فيها رواتب ووضع فيها ما تحتاجه الناس من حبر وأقلام وغيرها (ص207، 2)