كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (درب السَّلام الصّّعب): سلام المئة عام

يتحدث (كيسنجر) عن عقدٍ من تاريخ أوروبا بين عامي 1812-1822، تميزت تلك المدة بحركاتٍ ثوريَّةٍ في دولٍ أوروبيَّة عديدة ومطامعَ توسُّعيَّةٍ، وفي تلك المدة كان الوصول إلى السَّلام أمرٌ صعبٌ للغاية، إلا أنَّ السلام الأوروبي المنشود تحقق في نهاية تلك الحقبة وقد استمرَّ نحو مئة عام. ووفق رؤية كيسنجر فإن مدة بعد الحرب العالميَّة الثَّانية في أوروبا قد تكون مشابهةً كثيرًا للفترة الزمنية لتاريخ القارة العجوز قبل مئة عام. أكَّد كيسنجر أنَّ التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن قد تمر فتراتٌ زمنية متشابهةٌ نوعًا ما بظروف مختلفة؛ فحلم نابليون بالتَّوسع في أوروبا مشابهٌ لحلم هتلر في التَّوسع؛ ما يدعونا إلى دراسة التَّاريخ للاستفادة من المآثر ولتعلُّم الدروس. "هناك تشابهٌ في الظُّروف التي أدَّت إلى الحرب وفرضتها في بداية القرن التَّاسع عشر، والظُّروف التي أدَّت إلى الحرب وفرضتها في ثلاثينيات القرن الماضي"

وانطلاقًا من ذلك درس كيسنجر دراسةً موسَّعة مستفيضة الحركاتِ الثَّوريةَ التي طالت بعض المدن الأوروبيَّة، وحملاتِ نابليون خارج فرنسا، ووضّح كيفيةَ عقدِ معاهدات السَّلام، وتناول أيضًا مجموعةً من المؤتمرات التي عُقدت لأجل تلك الغاية، وقدّمَ أيضًا دراسةً معمَّقةً لشخصيتين كان لهما أثرٌ بالغ في تلك الفترة، هُما وزير الشؤون الخارجيَّة البريطاني (لورد كاستلري)، ووزير الخارجيَّة النَّمساوي (كليمانس فون مترنيخ).

( كاستلري) كان متمسكًا بالمبادئ السياسيَّة للدولة "الجزيرية" بحسب تعبير الكاتب، فبريطانيا منفصلةٌ عن أوروبا بحواجز طبيعيَّة بحريَّة تؤمِّن على نفسها بها، لكنها في الوقت نفسه تسبب لها مرارة الانعزال، لذلك عمل وزير خارجيتها في تلك الفترة على إخراجها من تلك العزلة التي استمرَّت عشر سنوات. وأهم المبادئ التي تشبَّث بها ( كاستلري) مبدأ عدم التَّدخل في الشؤون الداخليَّة للدول الأوروبيَّة الأخرى، فقد كان مؤمنًا بأنَّه من خلال مبدأه الإنكليزي هذا يستطيع الحفاظ على التَّوازن في القارة الأوروبيَّة وإرساء قواعد السلام أيضًا. وكانت رغبة بريطانيا للانخراط في أجواء الصراعات الأوروبيَّة من جهة، والتزامها مبدأ عدم التَّدخل من جهة ثانية، يجعلان من وزير خارجيتها يعيش صراعًا داخليًّا متعبًا يُعبر عنه كيسنجر: "لم ينفك كاستلري يشدد على الاعتدال، وعلى إقامة سلم قائم لا على التَّفوق والسَّيطرة، بل على التَّوازن، وعلى السَّعي وراء الوئام وليس الانتقام".

أمَّا (مترنيخ) فكان يختلف مع (كاستلري) بالمبدأ ولكنه يسعى إلى الهدف ذاته؛ أي السلام والتوازن في أوروبا، لكنَّه كان يدعو إلى سياسة القمع عند نشوب أي عصيانٍ أو تمردٍ يُخِلُّ بالسلم والأمن الأوروبي، وكان مُبرره خوفُه من انقسامَ النَّمسا التي تتألف من قوميَّاتٍ مختلفةٍ وغيرِ منسجمة، فأيُّ حراكٍ ينشأ لسببٍ قوميٍّ في بلاده سيؤدي إلى خرابها، لذلك كان يسارع إلى إعلان الحرب وإن لم تكن حربًا عسكرية على الدَّوام، فهو كان بارعًا في الحرب السيكولوجيَّة ضد الخصم. وكان يسعى - لأنَّ النَّمسا دولةٌ تقع وسطَ أوروبا - إلى إيجاد أوروبا المتوسطة القويَّة. وكان يتمتَّع ببأس شديد وصبر كبير، إضافةً إلى دهائه الذي يُشهد له به، وبذلك أصبح وزير أوروبا الأوَّل وحاملَ راية السَّلام بلا منازعٍ، وقد وصفه كيسنجر بقوله: "إنَّه اللاعب الذي يعرف كيف يحرك تدريجيًّا ترتيب المواقع على رقعة الشَّطرنج ويعرف كيف يستخدم تحركات الخصم ليشله أولاً، ثُمَّ يقضي عليه، في حين يُجمّع هو طاقته".

وفي مقارنة بين هذين الرجلين يقول كيسنجر: "النَّمساوي هو الأناقة مجسَّدة، هو الرَّاحة والعقلانيَّة. أمَّا الإنكليزي فُممتلئٌ وثقيل وعملي تجريبي. ومترنيخ مرهف العقل فصيح. أمَّا كاستلري وإن بدا نافذًا في أثناء المُناقشة، فهو يُعبّر عن رأيه بارتباكٍ"

ومن أهم المؤتمرات التي قام كيسنجر بدراستها مؤتمر (فيينا) الذي عُقد على أساس معاهدة باريس ومؤتمر (إكس لا شابل)  الذي عُقد بناءً على نتائج مؤتمر فيينا. تلك المؤتمرات بُنيت على أساس (الحلف المُقدَّس) بحسب تعبير كيسنجر، عُقد هذا الحلف بعد هزيمة نابليون وهربه من منفاه؛ محاولةً لإعادة فرنسا الدولة القويَّة إلى الحلف وإبعادها عن النزعات الثَّورية التي أشعل فتيلها نابليون. فبعد اجتماعات عديدةٍ اختلف المجتمعون في نواحٍ واتَّفقوا في نواحٍ أخرى، وخرجوا بقرار إعادة فرنسا إلى موقعها المعهود بالنسبة إلى القارة الأوروبيَّة.

وينبه الكاتب إلى أنَّ تلك الأزمات التي واجهت دول أوروبا كان لها الفضل في توحيد جهود الدول الأوروبيَّة للوحدة والعمل معًا وفي حال انتفاء أسباب الخطر سيُقوّض أساس تلك الاتفاقيات "استمرارية حالة السلم بالذَّات تساعد على تفكيك كل حلف عقد أيَّام الحرب، إذا لم يحدث شيء لتثبيته غير ذكرى المخاطر المُشتركة".

ما يتميز به هذا الكتاب هو اللغة السَّهلة التي استخدمها كيسنجر والشروحات والتوضيحات لمختلف المواقف، إذ لم يستخدم مصطلحاتٍ سياسيَّةً معقدة؛ لذلك يمكن لأي قارئٍ غير مختصٍّ أن يتوغل في أعماق الكتاب بكل يسرٍ وسهولة، وذلك دون أن يبخس من شأن المحتوى.

رأي مُعد المقال:

تبدو سياسة الدول الأوروبيَّة في القرنين الماضيين - من وجهة نظر مراقب خارج أوروبا- أشبه باجتماع ثُلَّةٍ من الحكماء يعملون جاهدين كي لا يختلفوا، ويحاولون تقبُّلَ الاختلاف إن حدث، ويحاول أولئك الحكماء نفسهم من جهةٍ ثانيةٍ إخمادَ نار الحروب منذ الشَّرارة الأولى لتدارك مخاطر الصراع، وإن استعرت النَّار يكابدون العناء لإخمادها، وفي حال الفشل والخراب، يعترفون بفشلهم ويتنبَّهون إلى مكامن الخلل في توجُّهاتهم ويتعلَّمون الدَّرس لأجل مُستقبلٍ أفضل. 

معلومات الكتاب: