الفنون البصرية > فلسفة الفن

العريّ في الفن: دلائل ومعاني (الجزء الثاني)

ناقشنا في الجزء الأول من المقال تاريخ العرّي في الفن في العصور القديمة، وطرحنا حينها سؤالًا؛ لماذا قرر مايكل آنجلو أن يعرّي أبطاله في لوحة قصة الخلق المرسومة على سقف كنيسة السيستين (The Sistine Chapel)؟

الإجابة هي الخلود، فعندما يختار الفنان أن يعرّي شخوصه المصورة، إنما هو يفعل ذلك لأسبابٍ متعددة، أحدها هو عدم التأطير الزمني؛ أي إن الملابس والأزياء -من وجهة نظر الفنان- تُقيِّد المشاهد الفنية وأبطالها ضمن زمن معين، لذلك فإن تعرية الأشخاص توحي بالخلود، ويتيح للجسد البشري العاري أن يتخطى بتأثيره حدود الزمن (2,1).

ومنذ عصر النهضة وحتى اليوم ، بقي العُري محورًا أساسيًا للفن في الغرب، سواء اعتنق الفنان المُثُل الكلاسيكية أم أعاد تشكيلها، وقد امتاز الفنانون منذ القرن السابع عشر وحتى الوقت الحاضر بالشكل العاري وجعلوه وسيلةً مقنعةً للتعبير الإبداعي، إذ بدأت تظهر صورة أكثر طبيعية إلى حد ما للعراة في القرن السابع عشر في لوحات الباروك، مثل سوزانا والحكماء (Susanna and the Elders) للفنانة أرتميسيا جينتيليشي (Artemisia Gentileschi)، أو في فنِّ كارافاجيو (Caravaggio) الذي يُركِّز على العريّ الحسي للذكور. ومن المرجح أن يكون الفنان الشمالي روبنز (Rubens) الفنانَ الأبرز في تصوير الأنثى العارية في القرن السابع عشر، فرغم إعجابه بالفن القديم وعصر النهضة الإيطالي، لكن شخصياته -على الرغم من أنها شديدة الحسية- أكثرُ طبيعيةً، وربما أكثرُ موهبةً أيضًا، من نظرائه الإيطاليين المتمسكين بالمثالية (3,4).

*لوحة (Susanna and the Elders) للفنان (Artemisia Gentileschi).

دفع الافتتان المستمر بالعصور الكلاسيكية الفنانينَ لتجديد نهجهم في التقاليد العارية في الفن الباروكي، وهكذا فإن رؤية هندريك جولتزيوس (Hendrick Goltzius)  لهرقل فارنيز (Farnese Hercules) من الخلف والأسفل يعدّل ويغير النسيج العضلي للتمثال القديم، في حين أن لوحة أندريا ساكي (Andrea Sacchi) لمارك أنتونيو باسكواليني (Marcantonio Pasqualini)؛ وهو مغنٍّ محترم للغاية في عصره، تُضخِّمُ مكانةَ الجالس في الصورة من خلال تضمين اثنين من العراة يمثلان الموسيقيين الأسطوريين أبولو (Apollo) و(Marsyas) مارسياس (5).

*رسم لتمثال باسم (Farnese Hercules) للفنان (Hendrick Goltzius).

ويساعد وجود العُري في لوحات أخرى على زيادة درامية العمل السردي، وهذا ما يمكن أن يلحظه المرء في لوحة (Samson Captured by the Philistines) للفنان جورتشينو (Guercino)، إذ قرر الفنان تعرية بطل اللوحة فقط مسلِّطًا الضوء على ضعفه أمام خصومه المسلحين، فهو على الرغم من قوته الجسدية الواضحة من عضلاته المفتولة يبقى عاجزًا أمام الأسلحة.

كذلك اكتسبت الأنثى العارية معنى جديدًا في فن روبنز (Rubens) الذي رسم ببهجةٍ واضحةٍ نساءً ذوات شكلٍ خلابٍ وأجسادٍ مشعة.

لقد جسدت الأشكال المكشوفة أو العارية في عصر الباروك مفاهيمَ الحقيقة والرفاهية والحُبور (5).

*لوحة (Samson Captured by the Philistines) للفنان جورتشينو (Guercino)

أما في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فقد كان احترام الثقافة الكلاسيكية عاليًا بما في ذلك في الفن العاري، ولذلك وَجَّهَت أكاديميات تلك الفترة الفنانينَ الشباب لتطوير مهاراتهم من خلال رسم الشكل العاري للنحت القديم إضافةً إلى النماذج الحية أيضًا. وقد استمر عديدٌ من الفنانين الناجحين في مثل هذه التدريبات فترةً طويلةً بعد انتهاء دراساتهم، مما أدى إلى حضور عنصر العريّ في كل مكان في لوحات التاريخ الطموحة في تلك الفترة بالإضافة إلى مخططات النحت والزخرفة. كذلك رسم مؤيِّدو الأسلوب الكلاسيكي الحديث الأشكالَ العارية استنادًا إلى النماذج القديمة، ومنهم فرساوس كانوفا (Canova Perseus) الذي يكرر شكل أبولو بلفيدير (Apollo Belvedere) وجسمه الذي يحظى بإعجاب كبير.

افترض الفنانون المرتبطون بالحركة الرومانسية موقفًا أكثر حرية تجاه المواد العارية والعتيقة عمومًا، فقد أدخل كميل كورو (Camille Corot) الحكايات الأسطورية ضمن مناظره الطبيعية، ومن أعماله تلك مثالٌ مبكرٌ يمثل نبع الغابة، حيث تستعد الإلهة ديانا (Diana) بين حوريات الاستحمام لمعاقبة أكتايون (Actaeon) على مشاهدتها عارية.

ومن أجل ألّا يسيء الفنانون إلى أخلاق القرن التاسع عشر، نجد أنهم سعوا إلى تصوير الشخصيات العارية ضمن سياقات لا تُصادف في الحياة اليومية، مثل الأساطير، ومع ذلك فإن القيود الدقيقة المفروضة على العراة تزيد بطريقةٍ ما من إثارتها، كما هو الحال في لوحة ألكسندر كابانيل (Alexandre Cabanel) ولادة فينوس (5). 

*لوحة (The Birth of Venus) للفنان الفرنسي (Alexandre Cabanel).

وعندما واجهت المُثُل الأكاديمية بعض التحديات في أواخر القرن التاسع عشر، كُشف عن الوضع الحسّاس للعري وسُعي إلى هدمه، فصَدَمَ إدوارد مانيه (Édouard Manet) الجمهور في عصره برسم نساء عاريات في المواقف المعاصرة، كما في لوحاته أولومبيا (Olympia) أو غداء على العشب (Le Déjeuner sur l’herbe). وتلقى غوستاف كوربيه (Gustave Courbet) انتقادات لاذعة لتصويره بائعةَ هوى عادية بدون آلهة أو حوريات في فيلم "امرأة مع ببغاء" (Woman with a Parrot). وفي النحت، سعى الفنانون إلى أبعادٍ جديدةٍ وتماسُكٍ سَرديٍّ للذكور والإناث على حدّ سواء، فأشار جان بابتيست كاربو (Jean-Baptiste Carpeaux) إلى التناقض الدراماتيكي بين اللياقة البدنية القوية والوضع البائس في مجموعته من العراة التي تمثل أوجولينو مع أبنائه (Ugolino with his sons)، وتحدَّى الفنان أوغست رودان (Auguste Rodin) شرائعَ المثالية الكلاسيكية في تصويره المُعبِّر والصريح في لوحته (Adam) آدم (5).

*لوحة (Le Déjeuner sur l'herbe) للفنان إدوارد مانيه (Édouard Manet).

وعلى الرغم من أن التقليد الكلاسيكي قد فقد تفوقه الثقافي في القرن العشرين، لكن جاذبية العري الفني تظلُّ قوية في الفن الحديث والمعاصر. وقد أدى رفض الأخلاق الأكاديمية سعيًا وراء شكلٍ جديد للحقيقة إلى تخفيض المثالية الكلاسيكية والتركيز على العري الصادق وغير المُقنَّع؛ أي العري الذي يعكس الحياة اليومية، وهو ما نجده في سباحين رينوار (Renoir)، والمشاهد الساذجة لنساء ديغا (Edgar Degas) وهن يغتسلن أو يرتدون الملابس، إذ يأخذ ديغا وجهة نظر أقل عاطفية إلى حد ما عن العراة، وغالبًا ما يصورهم في بيئة متواضعة للغاية بالفعل، كذلك فتاة بالثوس (Balthus) البسيطة وهي تنظر مباشرة في المرآة، جميعهم لا يشبهون العراة ذوي المعايير المثالية الكلاسيكية بأي شكلٍ من الأشكال، ولكنهم أقرب بإنسانيتهم العلنية وغير المجمَّلة إلى فن العصور الشرقية القديمة (5).

ونرى مرة أخرى مع بيكاسو (Picasso) في لوحته سيدات أفنيون (Demoiselles d'Avignon) تخريبًا متعمدًا لتقليد المثالية الكلاسيكية للمرأة العارية، إذ يصور أربع بائعات هوى، رسمَهُنَّ بخطوطٍ خارجيةٍ شبه تكعيبية وغير طبيعية، وفي أوضاع استفزازية وهن يرتدين وجوه المنحوتات الإيبيرية القديمة والأقنعة الأفريقية المؤطرة بقطعةٍ قماشٍ كلاسيكيةٍ جامدة. لكنه عاد أحيانًا في وقت لاحق من عشرينيات القرن الماضي إلى التقاليد الكلاسيكية وعراة عصر النهضة مع ارتباطاتها مع العصر الذهبي الماضي (3).

*لوحة (Les Demoiselles d'Avignon) للفنان (Pablo Picasso).

أما حديثًا، تُدرِّس أغلب الجامعات الفنية حول العالم الطلابَ على رسم العارضين العراة بغرض التمرُّن؛ إذ تساعد دراسة العراة ورسمهم الفنانَ على فهمِ بنية العضلات وتجعله قادرًا على تصوير الجسم بدقة. 

ويعد رسم العارضين العراة أحد أكبر التحديات لطلاب الفنون، يتعلم فيه الطالب النقل بدقة من الواقع أمامه مما يمكنّه من رسم أي شيء تقريبًا، مما يحسِّن مهارته ويساعده على تصوير أي منظرٍ طبيعي أو صورةٍ شخصيةٍ أو صورٍ ثابتةٍ أخرى على نحو جيد (1,6).

المصادر:

1. Teaching the Nude in Art [Internet]. US: Utah Museum of Fine Arts; 2010 [cited 25 July 2021]. Available from: هنا

2. Sorabella J.The Nude in the Middle Ages and the Renaissance. Heilbrunn Timeline of Art History [Internet]. New York: The Metropolitan Museum of Art; 2000-2008 [cited 25 July 2021]. Available from: هنا

3. Graves E. The Nude in Art - a Brief History : Museum : University of Dundee [Internet]. Dundee.ac.uk.[cited 30 June 2021]. Available from: هنا

4. Bambach C.Anatomy in the Renaissance. Heilbrunn Timeline of Art History [Internet]. New York: The Metropolitan Museum of Art; 2000-2002 [cited 25 July 2021].  Available from: هنا

5. Sorabella J.The Nude in Baroque and Later Art. Heilbrunn Timeline of Art History [Internet]. New York: The Metropolitan Museum of Art; 2000-2008 [cited 25 July 2021]. Available from: هنا

6. Knapp R, Lehmberg J. ADDRESSING NUDITY IN ART. Missouri-US: Museum of Art and Archaeology University of Missouri;.1-2 p. Available from: هنا