الفنون البصرية > فلسفة الفن

العري في الفن: العصور القديمة (الجزء الأول)

تُعدُّ الشخصيات العارية في الفن أحد أقدم الموضوعات الفنية التي صُوِّرت بمختلف الأساليب من رسم ونحت وغيرهما، ولربما أكثرها جدلية أيضًا على الرغم من حضورها البارز في الفن في أنحاء العالم جميعه وعبر العصور كلها، فمنذ ولادة الحضارات في بلاد ما بين النهرين والشرق الأقصى كان الجسد البشري محطَّ اهتمام لإلهام الفنانين؛ إذ اكتُشِفت أعداد لا تُحصى من التماثيل الطينية التي صنعها هؤلاء الفنانون الأوائل تكريمًا لآلهتهم، وتصوِّر هذه التماثيل الآلهة عشتار (آلهة الخصب والحب والحرب في الحضارة الآشورية) وهي تظهر فخورةً وممتلئة الجسم ومدورة الصدر وذات خصر عريض، وهي تشبه بشكلها هذا مثيلاتها من الآلهة المصوَّرة في المعابد الهندية التي يرجع تاريخها إلى القرن الأول قبل الميلاد، وقد كان لهذه التماثيل المثيرة جميعها دورًا دينيًّا مهمًّا، وكانت جزءًا أساسيًّا من الطقوس والشعائر السائدة في ذلك الزمن (1,2).

ومع بزوغ الحضارة الإغريقية والرومانية في أوروبا احتفل الغرب بالشكل العاري الذكوري في فنونهم التصويرية المتعددة، وكان ذلك امتدادًا طبيعيًّا لعشقهم المشهور للرياضة والحرب، فأظهروا إعجابهم وتقديرهم العالي للقوة والعزيمة والكمال المثالي عن طريق منحوتاتهم ورسوماتهم المُستوحاة من أجساد الرياضيين والمحاربين الذين تنافسوا في الألعاب الأولمبية عراةً، فارتبط العري الذكوري بمعاني المجد والانتصار تحديدًا، إلى درجة أنَّهم استخدموا هذه الأنموذجات للجسد العاري في تصوير آلهتهم وأبطالهم الأسطوريين.  

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ اهتمام اليونانيين والرومان بتصوير الذكر العاري لم يمتد إلى نظيره الأنثوي، وبهذا يبدو لنا الفرق بين الغرب والشرق واضحًا، فبينما كان الشرق معتدًّا بأُنثاه العارية التي جسدت قدسية الإنجاب والأمومة وروح الطبيعة، فقد فضَّل الغرب رؤيتها بالملابس، ولقد استمر ذلك لأكثر من 350 سنة إلى أن أنجز نحات يوناني يُدعى براكسيليس (Praxiteles) في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد منحوتةً بالحجم الطبيعي وهي تصوِّر الآلهة اليونانية أفروديت بعد أن خلعت ملابسها وهي تميل برأسها إلى الجانب قليلًا وبيدٍ واحدة تَحجُب جسدها المكشوف ربما لإظهار التواضع. 

فبأبعادها المتكاملة والمتناسقة ومثاليتها تناقض هذه المنحوتة الأفروديتية أسلافَها من التماثيل الشرقية؛ نظرًا لاختلافها عن الأشكال البارزة والمبالغ فيها لرموز الخصوبة في الشرق الأدنى.

سُمِّيت هذه المنحوتة أفروديت كنديان (Knidian Aphrodite)، وقد ألهمت الفنانين في الأزمنة الآتية، وأسست تصويرًا معياريًّا جديدًا للأنثى العارية، فكانت تُشبه مثيلاتها من التماثيل الذكورية الإغريقية المَبنية على الأبعاد والنسب المثالية، وعلى الرغم من عدم نجاة هذه التحفة الفنية، ولكنَّ تأثيرها يَطغى على عديدٍ من النُسخ الفنية المماثلة التي صُنِعت في العصور الهَلنَستية والرومانية اللاحقة (3).  

ومنذ ذلك الحين أصبح العري الفني الإغريقي المعيارَ المتعارف عليه في تمثيل العراة في الفن الغربي اللاحق؛ إذ وجد الفنانون حريةً أكبر للتعبير عن مختلف المشاعر وأشكال الحركة في استخدام الجسد بكامله بشكله العاري، وتُعدُّ تلك المثالية في التناسب والتناسق الجسدي المثلَ الأعلى للعري الفني؛ إذ تسمو حالةُ الصورة من مجرد شخص عاري إلى رمز للصحة والشباب والتناسق الشكلي على عكس الصور الأقل براعة أو كمالية فالعري في الفن وإن كان شهوانيًّا قليلًا فإنَّ هدفه هو تحريك العقل والقلب معًا (3).

 

*منحوتة رامي القرص (The Townley Discobolus) للنحات الروماني (Myron).

ومع صعود المسيحية في روما وانتشارها الواسع في أوروبا في العصور القديمة المتأخرة تراجع تصوير العراة في الغرب على نحو ملموس، ويعود ذلك إلى نبذ الكنيسة لتقاليد الوثنية كلها، وعدِّ تماثيل الإغريق والرومان رموزًا وثنية تدعو إلى الخطيئة، بالإضافة إلى ما جلبه الدين المسيحي معه من مفاهيم العفة والعزوبة وتغيرت قيمة الجسد الإنساني مع قصص الطرد من الجنة، وارتبط العري بالعار والخزي، وشنت الكنيسة حملات رقابة لتغطية التماثيل العارية بأوراق التين أيضًا، وذلك كله أدى إلى قلة الاهتمام بدراسة الجسد العاري؛ ولذلك نرى أنَّ فن العصور الوسطى قلما يحوي أشكالًا عارية باستثناء بعض مشاهد يوم القيامة أو قصة آدم وحواء مع التركيز على جوانب ضعف الجسد البشري وهشاشته، وارتبطت تلك المشاهد القليلة بمفاهيم الذل والمهانة والخضوع، وبذلك كان فن العصور الوسطى بعيدًا تمامًا عن الافتخار والعَرض المتكرر والجريء للشكل العاري في الأزمنة السابقة (4,1).  

*لوحة (The Creation of the World and the Expulsion from Paradise) للفنان الإيطالي (Giovanni di Paolo).

ومع تَجدُد الاهتمام بالثقافة الإغريقية الرومانية في عصر النهضة انتعش الفن العاري مجددًا، واسترد دوره الجليل في الغرب، ففي وقت مبكر من منتصف القرن الثالث عشر الميلادي أخذت الشخوص العارية التي حَذت حذو الأنموذجات الإيطالية القديمة بالظهور مرة أخرى إلى الواجهة الفنية، وبحلول القرن الخامس عشر غدا العري في الفن رمزًا وإشارة للعصور القديمة. 

واستهل فنانون من أمثال نيكولا بيسانو (Nicola Pisano) في القرن الثالث عشر وجيوتو (Giotto) في القرن الخامس عشر في إبداء معارفهم ووعيهم بالعري الكلاسيكي، وكان أن تبنَّى الفنان دوناتيلو (Donatello) النسب المثالية الإغريقية عند عمله مع تمثال ديفيد (David) فاستحدث بذلك بطلًا إنجيليًّا بمعايير كلاسيكية، بالإضافة إلى أنَّ هذا الفنان قد بَرعَ حقًّا في رسم وتصوير الجسد البشري ضمن وضعيات مفعمة بالحيوية ونابضة بالحركة في نقوشه الفنية واسعة الانتشار (1,4). 

*منحوتة (The Feast of Herod) للفنان دوناتيلو (Donatello)

وبحلول القرن الخامس عشر أصبح الرسم من الواقع محتمًا على الفنانين العاملين أو المتدربين في ورشات العمل الفنية في إيطاليا، وانصبَّ التركيز مجددًا على الذكور فحسب؛ إذ استُخدمت قوالب أنموذجات ذكورية معدلة لتُستخدم في تصوير الأشكال الأنثوية. ومع قدوم القرن الآتي أصبح فنانو عصر النهضة علماء تشريح بجدارة، وكان ذلك سعيًا منهم إلى الدقة ومعرفة دقائق الجسد البشري وتفاصيله، فلم يتوانَ بعضهم عن تجريب التشريح المباشر للجثث، وكان من أبرزهم الفنان الإيطالي الأكثر شهرة ليوناردو دافينشي (Leonardo da Vinci) ومايكل أنجلو (Michelangelo) والنحات الفلورنسي باتشيو باندينيلي (Baccio Bandinelli)، فدرسوا أشكال العضلات والعظام والمفاصل وكيفية عمل الجسد البشري ككل، وذلك كله كان سعيًا جادًّا لاستكشاف الإمكانيات التعبيرية للجسد لتقديم إنتاج فني أكثر صحة وانسجامًا ومطابقة للواقع، ولكنَّ غالبية الفنانين اعتمدوا في دراستهم للتشريح على سطح الجسم ولاحظوا عن طريق الجلد شكل العضلات والأوتار والعظام واحتفظ جميعهم بهذه الدراسات في سجلات مفصلة (5).

*لوحة (A Male Nude; Separate Study of His Head) للفنان مايكل أنجلو (Michelangelo).

أجرى ليوناردو دافنشي -الذي هو أهم فنان تشريح في العصور كلها دون شك- سلسلةً من الدراسات التفصيلية للجمجمة البشرية عام 1489م، مستعيرًا من أسلوب الهندسة المعماري الصارم في تمثيل الأشكال ثلاثية الأبعاد في المخطط والمقطع والارتفاع، ووجهة نظر منظورية، وبذلك ابتكر مفردات ومصطلحات جديدة لتاريخ التوضيح العلمي.

وقد أنتج ليوناردو التشريح الأكثر دقة لجسم الإنسان عام 1510م؛ إذ كان يعمل تحت إشراف أستاذ التشريح الشاب مارك أنتونيو دي لا توري (Marcantonio della Torre) من جامعة بافيا (Pavia). 

ولم تُنشر أي من اكتشافات ليوناردو في حياته، ومع ذلك يبدو أنَّ أساليبه في توضيح تشريح العضلات، بالإضافة إلى بعض تقنيات "الخطة، والقسم، والرفع" الخاصة به، وقد انتشرت على نطاق واسع، ودُمجت في أول أطروحة مصورة على نحو شامل في عصر النهضة (5). 

لوحة (Vitruvian Man) للفنان ليوناردو دافينشي (Leonardo da Vinci).

ونتيجةً لهذا الالتزام الفني العميق ترك لنا هؤلاء العظماء أعمالًا ما تزال تدهشنا ببراعتها إلى اليوم مثل تمثال ديفيد لمايكل آنجلو الذي صُمِّم ضمن المعايير الكلاسيكية المثالية. 

وكان حماس هذا الفنان لموضوع العري كبيرًا إلى درجة أنَّه قدَّمها حتى على جدران إحدى أكبر كنائس إيطاليا.

فببراعته الفنية وجرأته العظيمة صوَّر آنجلو قصةَ الخلق على سقف كنيسة السستين the sistine chapel؛ إذ كان أبطالها عراةً مطابقين للتقاليد الكلاسيكية، فلماذا قرر هذا الفنان أن يعرِّي أبطاله في هذا المكان المقدس (2,4)؟

هذا ما سنتطرق إليه في الجزء الثاني من المقال.. العري في الفن: دلائل ومعاني.

المصادر:

1. Graves E. The Nude in Art - a Brief History : Museum : University of Dundee [Internet]. Dundee.ac.uk.[cited 30 June 2021]. Available from: هنا

2. Teaching the Nude in Art [Internet]. US: Utah Museum of Fine Arts; 2010 [cited 18 July 2021]. Available from: هنا

3. Sorabella J. The Nude in Western Art and Its Beginnings in Antiquity. Heilbrunn Timeline of Art History [Internet]. New York: The Metropolitan Museum of Art; 2000-2008 [cited 18 July 2021]. Available from: هنا

4. Sorabella J.The Nude in the Middle Ages and the Renaissance. Heilbrunn Timeline of Art History [Internet]. New York: The Metropolitan Museum of Art; 2000-2008 [cited 18 July 2021]. Available from: هنا

5. Bambach C.Anatomy in the Renaissance. Heilbrunn Timeline of Art History [Internet]. New York: The Metropolitan Museum of Art; 2000-2002 [cited 18 July 2021].  Available from: هنا