الفنون البصرية > سلسلة الفن النسائي

ليونور فيني.. نسوّيةٌ فريدة

ولدت ليونور فيني (Leonor fini)  في 30 آب/ أغسطس 1907م في بوينس آيرس (Buenos Aires)، الأرجنتين (Argentina)، كانت رسامة ومصممة ومؤلفة أرجنتينية وإيطالية كذلك (1-4).

كانت والدتها الإيطالية متزوجة من رجل الأعمال الثري هيرمينيو فيني (Herminio fini) الإيطالي أيضًا، ولكنهما انفصلا عندما كانت طفلة، فعادت fini مع أمها إلى مدينة ترييستي (Trieste) في إيطاليا حيث نشأت الفنانة ضمن حياة حرة وبوهيمية إلى حدٍّ ما مع والدتها المستقلة، ولكن انفصال والديها لم يكن سهلًا، فوالدها كان معروفًا بعنفه واستمر في محاربة والدتها من أجل حضانة الطفلة، إلى درجة أنه أرسل رجالًا إلى إيطاليا لمحاولة اختطافها، ولذلك أمضت فيني سنوات عدّة من طفولتها متنكرة بزيّ صبيٍ صغير بسبب خوف والدتها عليها من الخطف، ومن المحتمل أنه في ذلك الوقت بدأ افتتان الشابة الصغيرة بالأزياء و لعب الأدوار الذي استمر طوال حياتها (4).

لم تكن ليونور على وفاق مع المدرسة وأنظمة التعليم، فقد كانت معروفة بروحها المتمردة وشجاعتها في إبداء الرأي، ما أدى إلى وقوعها في المشكلات مع المدرسة فتركتها، لكن ذلك لم يمنَعها من أن تتعلم الفنّ بنفسها (4) من خلال الرسم أولًا، فَكانت ليونور تزور مشارح المدينة بانتظام لدراسة تشريح الجسد، وقراءة الكتب التي وجدتها في مكتبة عمّها ثانيًا وأيضًا من الزيارات التي لا حصر لها إلى المتاحف والمعارض خلال تجوالها في أوروبا (3)، ولقد فُتِنَت كُليًا بأساتِذة الفنّ الفِلِمَنْكِيين، وقرأت بالألمانية لِكل من نيتشه وفرويد وكارل يونغ فتأثّرت بِنظريات الأحلام لفرويد وانعكَس ذلك في فنّها ولطالما اسّتمدَّت الفنّانة إلهامها من أَحلَامِها (4).

وما إن بلغت الشابة ليونور السَّابعة عَشرة من عمرها حتى بدأت تُخرج أعمالها إلى العَلَن، فعَرضت لوحةٍ لها في معرض في ترييست، وترَددت ليونور فيني على الدوائر الأدبية والفنيّة في المدينة حيث اشتُهِرَت بذكائها الشّديد وحِسَّها الفنّي العالي (3,4).

 انتقلت ليونور فيني إلى باريس في 1931م حيث دخلت إلى الساحة الفنّية الباريسية مُعتَرفًا بها فنانة حقيقيّة، وهناك قابلت ليونور الفنان السُريالي ماكس أرنست (Max Ernst) الذي أصبح حبيبها سنوات عدة في ما بعد، وعرّفها إلى مجموعة الفنانين السُورياليين هناك بمن فيهم بول إيلوار (Paul Éluard) وسَلفادور دالي (Salvador Dalí) الذي أصبح هو وزوجته من أعزّ أصدقائها أيضًا، والتقت بهنري كارتييه -بريسون (Henri Cartier-Bresson) وعدد من الرّسامين والكُتّاب الآخرين في المجموعة، وعلى الرغم من أنها عرضت أعمالها جنبًا إلى جنب مع السُورياليين رفضت ليونور فيني أن تُعد واحدةً منهم وذلك لخلافِها مع الأفكار الجماعية للمجموعة (3).  

في 1936م قَبِلَت ليونور فيني دعوة تاجر الفن الأميركي جوليان ليفي (Julien Levy) للمشاركة في معرض مشترك مع عدد من الفنانين السورياليين (4)، وفي العام نفسه عادت ليونور إلى أوروبا، وانتقلت من إيطاليا إلى فرنسا حيث قابلت الفنانة السُوريالية المعروفة ليونورا كارينغتون (Leonora Carrington) إذ جمعتهما أفكار مشتركة وأصبحتا صديقتين وقضَتَا صيفًا معًا في الريف الفرنسي قبل بداية الحرب العالمية الثانية وقبل أن تفترقا نهائيًا بعد هجرة ليونورا كارينغتون إلى المكسيك.

في ذلك الصيف رسمت ليونور فيني لوحتها الشهيرة ألكوف (Alcove)، أو الغرفة الداكنة (The Dark Chamber)، حيث تصوّر الفنانة صديقتها ليونورا كارينغتون في مقدمة اللوحة تقف بوضعيّةٍ بطولية وهي ترتدي درعَ محارب وخلفها تجلس امرأتان على سرير، ربما هما شكلان يرمزان إلى الأوجه المتعددة لشخصية ليونور فيني نفسها، كلاهما يحدّقان بإعجاب وانبهار إلى كارينغتون المقاتلة بوصفها رمزًا حيًّا للقوة الأنثوية (4).

في لوحاتها تستكشف فيني أسئلة عن الجمال والعُمر، عبر خطوطها والأشكال الداكنة والمناظر الطبيعية المرقطة والمعتمة، تتساءل عن معاني الموت والحياة والحب والجنس، ويسود الغموض والألغاز والرموز والتلميحات موضوعاتها، ولا يخفى على أحد افتتان الفنانة بالمخلوق الأسطوري أبي الهول (sphinxes) هذا الحيوان الخيالي الذي كان رمزًا راسخًا في فنّها وهو يفصح عن ماهية التحولات والطبيعة عند فيني.

 

أمضت ليونور سنوات الحرب في مونتي كارلو وروما وتابعت العمل على لوحاتها "السوريالية" وعملت في رسم الصور الشخصية أو البورتريهات (portraits)، وهناك التقت بالكونت الإيطالي ستانيسلاو ليبريه (Stanislao Lepri) الذي تخلى عن مهنته الدبلوماسية ليعيش حياة إبداعية وفنية إلى جانب ليونور فيني. عاد الزوجان إلى باريس في 1946م حيث عاشا برفقة كثير من القطط التي كانت جزءًا لا يتجزأ من حياة الفنانة وفنها، لم تكن القطط محض حيوانات أليفة بالنسبة إلى ليونور، لقد كانت تعدهم أصدقاء ورفقاء لها كما كانوا رمزًا أساسيًا في لوحاتها يعبر عن الأنوثة والإثارة والقوة والاستقلال والفردية، إذ يقال إنه في وقت ما، كانت فيني تمتلك 23 قطة، تشاركها جميعًا سريرها وتتناول الطعام جنبًا إلى جنب على مائدة العشاء، سواء كان هناك ضيوف أم لا (4).

لم يكن فنُّ ليونور سورياليًا قط، ففي لوحاتها تندمج عناصر الفن السوريالي مع الرمزية أيضًا، عَشِقَت ليونور الألغاز والألعاب في الحياة والفن أيضًا، وكانت دائما تضيف غموضًا في لوحاتها فتعطي فرصة للمراقب الجيد لمحاولة كَشْفَ الرسائل التي خبَّأتها له هنا وهناك، فكما في لوحتها (صورة ذاتية مع عقرب 1938) تُواجه فيني المُشاهد بنظرةٍ مباشرة عبر قماش اللوحة كاشفةً عن عَقربٍ مخفيّ تحت قفّازها مُرتديّة زيًا عاديًا وممزقًا في أماكن معينة. للوهلةِ الأولى تبدو المرأة شديدة الأنوثة والجاذبية إلّا  أن نظرة أكثر انتباهًا قد تكتشف الشيفرة المخبّأة في تمزقات ثوبها والعقرب تحت القفاز فهذه المرأة تخفي خلف مظهرها البريء مخلوقًا أشدُّ بأسًا مما يبدو عليه، فهي قد تلسع وتسمم عند اللزوم، وأما التمزق فهو رمز التَحرُّر من قيد التقليد والتفكير السَّاذج (4).

ما بين عاميّ 1946 و1953م تمتّعت فيني بحياة اجتماعية غنية وبقيت فنّانة محورية ومؤثرة في المجتمع الفنّيّ، وفي سن الخامسة والأربعين انغمست فيني في مساعٍ إبداعية مختلفة فتجلّت عبقريتها الفنيّة أيضًا في تصاميم المسارح والأفلام، وعملت على عدد من ديكورات المسرحيات الرائد، وصممت الأزياء فعملت مع أوبرا باريس وباليه دي كريستال وصممت ملابس الممثلة ماريا كاسارِس (Maria Casarès ) في مسرح لاسكالا في ميلانو، إضافة الى أكثر من سبعين عرضًا في المسارح الباريسيّة، وعملت مع المخرج فيدريكو فيلليني (Frederico Fellini) على تصميم أزياء فيلمه الشهير ½ 8 (4).

تابعت ليونور فيني حياتها في باريس محاطةً بقططها وأصدقائها وتابعت الرسم والعمل على المشروعات الإبداعية الأخرى إلى أن توفيّت في 1996م عن عمر يناهز 89 عامًا. كانت حياة هذه الفنانة الرائعة استثنائيةً بحق، فقد كافحت طوال حياتها لتحقيق النجاح في عالم الرجال محاولة ابتكار ذاتها والعيش بشغف من خلال فنّها وأصدقائها، وما تزال لوحاتها وأعمالها في التصميم والأزياء تُلهم كثيرًا من الفنانين إلى اليوم وما زالت تعد رمزًا للحركات النسائية في العالم والفنّ (4).

المصادر:

1. Leonor Fini 1908–1996 | Tate [Internet]. Tate. [cited 15 May 2021]. Available from: هنا

2. Leonor Fini | National Galleries of Scotland [Internet]. Nationalgalleries.org. [cited 15 May 2021]. Available from: هنا

3. Leonor Fini - Biography [Internet]. Leonor-fini.com. [cited 15 May 2021]. Available from: هنا

4. Leonor Fini Paintings, Bio, Ideas [Internet]. The Art Story. 2021 [cited 15 May 2021]. Available from: هنا