الهندسة والآليات > الروبوتات

الروبوتات وما قبل العقل

تختلف وجهة نظر الروبوت للعالم، ممَّا يجعل قراراته مختلفة عن قرارات البشر، ويمكن أن نطلق على هذا الفهم "نظريةَ العقل".

نظرية العقل 

هي جزء من العلوم المعرفية التي تبحث عن كيفية نَسبِنا الحالات العقلية للأشخاص الآخرين وكيفيّة استخدامنا لهذه الحالات لتفسير تصرفات هؤلاء الأشخاص وتوقعها، أو يمكن القول: إنَّه العلم الذي يبحث في مجال قراءة الأفكار والتفكير والقدرات العقلية (1)، إذ إنها السمة المُميَّزة والرئيسة في الإدراك عند البشر والرئيسيَّات، الموجودة عند جميع البشر من مراحل الطفولة الأولى، وهي عامل أساسي للتفاعلات الاجتماعية المعقدة والتكيُّفية مثل التعاون والمنافسة والتعاطف والخداع (1,2).

عند الأطفال مثلًا؛ يمكن أن تؤدي تلك القدرة (نظرية العقل) إلى العديد من الأنشطة المَرِحة مثل لعبة "الاستغماية" أو مناورات تتسم بالتعقيد كالكذب مثلًا (2). لكن ما الذي كان موجودا قبلَ العقل؟

أصول نظرية العقل

يصعب التحقق من أصول نظرية العقل، إذ لا تترك العملية المعرفية أثرًا في أيَّ سجل أحفوري، لذا يبحث فريقٌ بجامعة Columbia في هذا العمل تجريبيًّا (عن طريق التجربة) عن دليل على أن نظرية العقل كانت مسبوقةً بفرضية أبسط بكثير يُمكِن تسميتُها بـ "نمذجة السلوك المرئي" (أو نظرية العقل المرئية) (2).

نمذجة السلوك المرئي

لفهم هذا المصطلح الذي يبدو معقدًّا بعض الشيء لابد من التعرف على عنصرَين أساسيَّين هما المُراقِب والفاعل، إذ يشاهدُ المُراقِب الفاعلَ ليستنتج الحالة العقلية التي يتمتع بها أو الأفعالَ التي ينوي فعلها لاحقًا (2).

التجربة

اختبر الفريق تلك الفرضية (القائلة بأنَّه يمكن توقع نتائج السلوك على المدى الطويل بصريًّا فقط)، إذ أنشؤوا نظامًا روبوتيًّا يتكون من روبوت (فاعل) وربوت آخر (مُراقِب)، إذ يشاهد المُراقِبُ الفاعلَ من الأعلى ويتوقَّع سلوكه.

وبرمجَ الفريقُ الروبوت (الفاعلَ) للبحث والتحرك نحو أيّ دائرة خضراء يمكنه رؤيتها، وكانت تُغطَّى تلك الدائرة الخضراء أحيانًا بصندوقٍ أحمر طويل من الورق المقوى، وفي هذه الحالة؛ يتحرك الروبوت باتجاه دائرة خضراء مختلفة، أو لا يتحرك على الإطلاق (2). 

النتيجة

كانت النتيجة مدهشة بسببِ دقتها، فقد استطاع الروبوت (المُراقِب) توقُّع سلوكِ الروبوت (الفاعل) بنسبة 98.52% في المتوسّط، مع العلم أنَّ الروبوت (الفاعل) كان يختار في كل مرة اختيارًا عشوائيًّا من بين 4 نماذج سلوكية مختلفة (2).

علق بويان تشن Boyuan Chen -المؤلف الرئيس للدراسة- قائلًا: "إنَّ نتائجنا الأولية مثيرة للغاية"، ويُضيف مُعقبًا: "توضح النتائج التي توصلنا إليها كيف يمكن للروبوتات رؤية العالم من منظور روبوت آخر، إذ إنَّ قدرة المُراقِب على وضع نفسه في مكان شريكه -إذا جاز التعبير- وفهمه -من دون توجيه- إذا ما كان شريكه يمكنه رؤية الدائرة الخضراء من وجهة نظره أم لا؛ ربَّما يكون شكلًا بدائيًّا من التعاطف" (3).

تتميز هذه التجربة في الوسيلة التي اعتمدها المُراقِب من أجل توقُّع سلوك الفاعل، وهي التدرُّب على عدد من الفيديوهات فحسب دون أن يعرف أي شيء عن طبيعة الوضع الذي يُشاهده، متفوقًا بذلك على التجارب الأخرى المُشابِهة التي اعتمدت على التفكير الرمزي باستعمال مجموعات محددة قبلًا من المُدخَلات والإجراءات (2).

استنتاج مثير

أثبت الفريق قدرة الروبوت (المُراقِب) على مراقبة الروبوت (الفاعل)، والتنبؤ بخطته المستقبلية أو سلوكه قبل حدوثه في الواقع، وذلك عن طريق استعمال بيانات الكاميرا الأولية فقط بوصفها مدخلات، ويعتقد الفريق أنَّه من المحتمل أن يكون أسلافنا من الرئيسيَّات قد تعلموا نمطًا من التنبؤ السلوكي اعتمادًا على الرؤية فحسب (تمامًا كما حدث في التجربة) قبل وقتٍ طويلٍ من تعلُّمهم صياغة أفكارهم الداخلية إلى لغة.

وعلى سبيل المثال؛ ربَّما نرى تصادمًا وشيكًا مع شخص آخر قبل وقت طويل من التفكير في الأمر تفكيرًا واعيًا أو لفظيًّا، إذ تسمح لنا هذه الصورة الذهنية بالابتعاد عن الطريق لأننا نستطيع رؤية الاصطدام الوشيك قبل حدوثه (2).

يرى هود ليبسون Hod Lipson -أستاذ الهندسة الميكانيكية بجامعة Columbia- أنَّ قدرة الروبوت على التنبُّؤ بالأفعال المستقبلية ليست فريدة، إذ يقول: "نحن -البشرَ- نفكّر بصريًّا أيضًا في بعض الأحيان، فكثيرًا ما نتصوّر المستقبل بعيون أذهاننا لا بالكلمات" (3).

ويزيد من قوة هذا الاستنتاج المثير دراسةٌ علمية في مجال الطب النفسي نُشِرت منذ عدة سنوات، توصلت عن طريق أدلة عديدة إلى أنَّ المنظور المرئي للأشياء ينشط في مناطق معيّنة في المخ، ولكنَّ المفاجأة هي أنَّها المناطق نفسها التي تنشط بها نظرية العقل (4). ممَّا يدفعنا إلى السؤال: هل يُعَدُّ التوقع المرئي لحادثة معينة قبل الاصطدام حجرَ الزاوية الذي تطورت منه نظرية العقل؟   

قد تكون هذه التجربة مفتاحًا لفهم العديد من أشكال السلوك الاجتماعي لدى البشر والرئيسيَّات، فقدرة الآلة على التنبؤ بأفعال الآخرين وخططهم دون معرفةِ أيّ معلومات عن البيئة المحيطة أو التفكير الرمزي أو اللغة قد تلقي الضوء على أصول الذكاء الاجتماعي، وتمهد الطريق نحو آلات أكثر مهارةً على المستوى الاجتماعي (2).

المصادر:

1. Marraffa M. Theory of Mind [Internet]. Internet Encyclopedia of Philosophy. Available from: هنا

2. Chen B, Vondrick C, Lipson H. Visual behavior modelling for robotic theory of mind. Scientific Reports. 2021;11(1). هنا

3. Robot Displays a Glimmer of Empathy to a Partner Robot [Internet]. Columbia Engineering. 2021. Available from: هنا

4. Schurz M, Kronbichler M, Weissengruber S, Surtees A, Samson D, Perner J. Clarifying the role of theory of mind areas during visual perspective taking: Issues of spontaneity and domain-specificity. NeuroImage. 2015;117:386-396. هنا