كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (طائفة الأنانيين) لعنة عابرة للزمن

يقدم الكاتب في رواية (طائفة الأنانيين) قصة شاب يعمل على أطروحة بحثية يقضي لأجلها ساعات طوال في المكتبة، وفي يوم ما كان يساوره ملل شديدٌ لم  يُطق احتماله؛ حينها قرر التمرد على بحثه ذاك وقراءة موضوع لا على التعيين، وإذ يجد نفسه على موعد مع الإثارة والتشويق مع كتاب بدأ القراءة فيه عن شخصية لافتة من التاريخ لم يسمع بها من قبل، وهو (غاسبار لانغونهيرت)، يحث الخطا ليتعرف أكثر عليها وكأنَّه صحراء جافة تعانق مياه الأمطار التي لطالما انتظرتها. فيبدأ الانتقال من مدينة إلى أخرى عبر مكاتبها، وتصله رسائل تباعًا من شخص مجهول لا يطول به الوقت قبل أن يلتقي به.

وبين كتاب وآخر يصل إلى معلومات كثيرة عن تلك الشخصية المثيرة. (غاسبار لانغونهيرت) مؤسس المذهب الفلسفي المعني بالأنانية (مدرسة الأنانية) وذلك في القرن الثامن عشر، وهو شاب في بداية العمر ينحدر من عائلة ثريّة في هولندا يجوب الصالونات الأدبية في باريس يذهل النساء بجماله الأخّاذ ويشعل غيرة الرجال وخاصة من يفشلون في اجتذاب النساء ولا يتمتعون بفن المحاورة الذي يمتلكه. يثير الشاب جدلًا واسعًا حين يجهر بفلسفته الأنانية أول مرة، وكثيرًا من السخرية التي لم تتمكن منه؛ إذ كان يتمتع بصدر رحب للنقاش بأسلوب رصين ليوضح فكرته الغريبة تلك.

لكن الأمر لا يتوقف لغاسبار عند حوارات ومناقشات ثقافية وفكرية، بل يُبحر عميقًا في عالم من صنعه، ويضع مكانته موضع الشك عندما يوغل في أفكاره الأنانية تلك. فلم يتوانَ أن يُنشئ مدرسة في باريس ليجمع من يصدّقون فلسفته تلك، ويبدأ بنشر دروس فلسفته وشرح أفكاره إلا أنه لم يوفَّق مثل ما كان يريد. ويفشل في جمع الأنانيين على ذلك الفكر، لكنه لا يتراجع ولا يفقد الأمل، بل يكمل إبحاره نحو هدفه متجهًا إلى مسقط رأسه في هولندا، ويتخذ طريقًا مختلفًا هذه المرة؛ إذ يلجأ إلى منزل أقاربه ليقيم عندهم، ويبدأ بنشر أفكاره بأسلوب تبشيري، لكن أقاربه وسكان تلك المدينة لم يلبثوا أن ارتابوا من أمره، ثم تتفاقم حالة غاسبار الفكرية والعقلية إلى حد تكاد تُطيح به، وتثير خوف قاطني المنزل.

يعتمد الكاتب في روايته هذه أسلوبًا مُخادعًا في طرح قصة بطل الرواية الباحث الشاب وشخصية غاسبار وغيرها من الشخصيات، فالرواية لم يقتصر موضوعها على الفلسفة الأنانية، بل هي أشبه بأحجية زمنيّة من جهة وسيكولوجيّة من جهة أخرى، ما يثير حيرة القارئ، فالقصة تبدأ في قاعة للكتب ثم تنتقل بين أسطر الكتب القديمة إلى حكايات عوالم أخرى، وتتحوّل في جزء منها إلى دوامة بين الحاضر والماضي وكومة من الأوراق ومريض قد توفي للتو بلا أقارب.

من الواضح أن الكاتب قد تعمّد إثارة الشك في نفس القارئ، بوساطة الشخصية الرئيسة وموضوع الرواية. فهو بذلك يظهر وكأنه يسبر أغوار النفس البشرية، خاصة حالة الانفصال عن الواقع؛ أي انفصام الشخصية، عندما يهيئ العقل المريض لصاحبه شخوصًا وطرقًا ومدنًا وبيوتًا لا وجود لها إلا في هلوساته وأوهامه، ومؤامرات تحاك ضده بهدف إفشال مخططاته. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل كان نقاش فلسفة الشك يأخذ حيّزًا لا بأس به في صلب الفلسفة الأنانية عند غاسبار، عندما تناول ماهية الخط الرفيع الذي يفصل بين الواقع والحلم، فكيف لنا أن نميز بينهما أو ألّا نكون شخصيات في حلم أحد ما في الجانب الذي ندعوه الواقع، بالإضافة إلى كثيرٍ من الهذيانات العدمية تظهر جليًّا في فلسفته الأنانية تلك.

معلومات الكتاب: