الفلسفة وعلم الاجتماع > علم المنطق والأبستمولوجيا

الارتباط لا يعني السببية: مغالطة (معه؛ إذًا بسببه)

- إنّني أخافُ منها جدًّا يا صديقتي..

- تخافُ منها؟ 

- نعم، انظري.. انظري إلى تلك الطاولة وتأملي عينيها الزرقاوين.. إنَّ لهما طاقةً مدمّرة.. لا شكَّ في أنَّ نار حسدها تجعلني أفقد أشيائي..

- مهلًا إنّني لا أفهم جيّدًا ما تقول! أَمُعجبٌ بها أنت أم خائف منها؟! 

- لا.. لا.. إنني أخاف منها.. كلما التقيتُ بها في هذا المقهى أُضيعُ شيئًا ما.. مرَّةً أضعتُ محفظتي، وقبلها نظَّاراتي الشمسية.. والبارحة أضعتُ مفاتيح المنزل.. والآن لا أعرف.. إنَّها تنظر إلي.. (مفتّشًا في جيوبه بارتباك).. ما هذا؟! أين هاتفي الخلوي؟!.. ابحثي معي.. 

- اهدأ قليلًا.. هاتفك معي.. لقد أعرتني إياه منذ قليل.. أما مفاتيح المنزل فهي مع صديقك أحمد.. لقد نسيتها هنا البارحة.. ولا أعرف أين نسيتَ محفظتك أو نظاراتك.. يبدو أنّك تصدّق بعض الخرافات التي تدفعك لارتكابِ مغالطة منطقية واضحة.. 

- مغالطة منطقية؟!

- نعم.. فوجود هذه الفتاة ذات العينين الزرقاوين في هذا المقهى ليس سبب ما تُضيعُه أو تنساه كلَّ مرّة.. إنك تربط الأحداث بطريقة خاطئة..

- ولكن؟! لا يمكن أن يكون هذا مصادفةً!

- بل هو الممكن الأكثر احتمالًا في هذه الحال.. وأمهلني قليلًا كي أشرح لكَ.. "يتصرَّفُ كثيرٌ من الناس كما لو أنَّ أيَّ ارتباطٍ بين الأحداث يوفر دليلًا قاطعًا على وجود صلة سببية مباشرة بينهما؛ أي بمجرد حدوثِ إحداها فغالبًا ما يحدث الآخر، وبذلك يطلقون حكمًا خاطئًا على الأحداث ذات الصلة العرَضية، وهذه تعد مُشكلة سببية؛ إذ إنَّ الارتباط لا يعني السببية (Correlation does not imply causation)، لأنَّ مُجرَّدَ وقوعِ حدثَين معًا لا يعني ذلك أنَّ أحدهما سببٌ في الآخر، بل ربَّما يكون هذا النوع من الارتباط نتيجةً لسببٍ مُشترَكٍ بين الحدثَين عبر المصادفة المحضة (1)."

- تقصدين أنَّ تزامنَ حدثَين لا يعني أنَّ أحدهما سببٌ في حدوث الآخر حتّى إذا تكرّر الأمر؟!

- نعم.. ودعني أضرب لك بعض الأمثلة، في الصيف يشتدُّ الحرُّ لذا تزيد مبيعات المثلجات ومبيعات الواقي الشمسي، وربّما يعلّقُ أحدهم ويقول: إنَّ ازدياد شراء المثلجات هو السبب في ازدياد مبيعات الواقي الشمسي، وكذلك الأمر في موضوع لقاحات الأطفال، فكثيرٌ من الناس يدّعي أنَّ لقاحات الأطفال هي السبب في إصابتهم في التوحد، دون أي دليل على ذلك!  

- قد أوافقكِ الرأي.. لكن للعين البشرية طاقة سلبية.. كيف يمكن أن نفسّر إضاعة أشيائي كلما كانت هذه الفتاة هنا؟

- أرجوك لا تُمعن في ارتكاب المغالطات.. ولا تحدثني عن الطاقة السلبية وغيرها من العلوم الزائفة، ودعني أكمل كلامي.. يقول الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (David Hume 1711-1776) في كتابه (Human Nature - الطبيعة البشرية) عن هذا: "إنَّ كلَّ ما نلاحظه في تلك الأشياء التي نحكم عليها بأنَّها مرتبطة سببيًّا هو حالات اقتران أو تزامن ثابتة (ارتباطات) وليسَت قوَّة سببية أو اتصالًا بالضرورة بين الأحداث (2)؛ أي لأوضح لك أكثر.. "قد يترابطُ نوعان من الأحداث (أي عندما نعثر على أحدهما نعثرُ على الآخر عادةً) دون وجودِ علاقة سببية مباشرة بينهما (1)."

- ربّما فهمتُ قليلًا.. ولكنَّ هذه المغالطة تُعرَف باسم "عقِبه؛ إذًا بسببه".. أليس كذلك؟

- ليست كذلك.. ولكن جيّدٌ أنّك ذكرتَها.. فتشابهُ تسمية بعض المصطلحات قد يُنتجُ خللًا في فهم حدودها.. أوّلًا يجب أن تعلمَ أنّه "عادةً ما تُستعمَلُ عبارة (الارتباط لا يعني السببية) في الأوساط الإحصائية، للحذر من استنتاج وجود علاقة سببية بين متغيَّرَين بالاعتمادِ على ارتباطٍ بينهما فحسب (3)، أمَّا في المحاججة المنطقية فينطبقُ مفهومُ ذلك الأسلوب الإحصائي على مغالطة "معه، إذاً هو بسببه" (with this, therefore because of this)، وباللاتينية (Cum Hoc, Ergo Propter Hoc)، وتحدثُ هذهِ المغالطة عندما يُفتَرَض وجود علاقة سببية بين حدثين لمجرد حدوثهما في الوقت عينه، وهي تشبه مغالطة عقبه إذًا بسببه (Post Hoc, Ergo Propter Hoc) -التي ذكرتَها- في إقامةِ علاقةٍ سببيَّة بين حدثين على أسس غير سليمة (3)، ولكنّ مغالطة "معه؛ إذًا هو بسببه" تختلفُ عنها في كونها ليست عن ارتباط الأحداث وفقًا لترتيبها الزمني، بل تشملُ أيَّ نوعٍ من الارتباطات التي تفترض وجود سببٍ لحدوثِ تأثير معين (4)."؛ أي باختصار تكون الأحداث في مغالطة "عقبه؛ إذا بسببه" متعاقبة..

- "معه؛ إذًا بسببه".. لم أقرأ عنها قبلًا.. 

- انظر إلى المشافي اليوم.. تجدها مزدحمة بالمرضى، وربّما يستنتجُ أحدهم: "المشافي مزدحمة بالمرضى؛ إذًا فالمشافي هي من تسبب المرض"، أو كما يقول صديقنا أحمد دائمًا: "أحبُّ هذا الكتاب؛ أتلقّى دعوةً إلى العشاء كلّما قرأت فيه".. مع أنّنا نعلم أنّه يتلقى دعواتٍ إلى العشاء دائمًا لأنّ كل أصدقائه يعرفون حبّه للطعام!

- لكنّه قد يكون محقًّا في ذلك.. فإنّنا كنّا معه عدّة مرّات.. أرجوكِ لا تنكري ذلك.. ولا تقولي مجددًا أنَّ الأمر مصادفة.. فقد تكرّرَ كأنّه مشهدٌ سينمائي يُعاد.. 

- اسمع يا صديقي.. "عادةً ما تحدث هذه المغالطة عند افتراض ارتباط سببي دائم وثابت بين الحدثَين دون وجودِ أيِّ دليلٍ إضافي لدعم السبب المزعوم (3)، في المرات الأخيرة التي زارتني فيها جارتي كانت تُقطع المياه عن المنزل بمجرّد أن تصلَ.. فتخيّل أن أقولَ: "لن أستقبل جارتي تلك في منزلي بعد الآن، فكلّما زارتني تُقطَعُ المياه عن المنزل ساعاتٍ".. وأنا أعرفُ أن إيصال الماء في هذه الفترة قليل وكثير الانقطاع.. أو أن تسمعَ مثلًا طالبًا كسولًا يقول: "كلّما كتبتُ بهذا القلم أرسب في امتحاناتي، إذًا فهذا القلم هو سبب رسوبي بالتأكيد"..

- ربّما اقتنعتُ قليلًا.. ولكنَّك تؤكّدين كونَ تزامنِ حدَثين هو دائمًا مصادفة!

- لا.. إنّك مُخطئ.. فأنا لم أقل ذلك.. ولكنَّ الحكَم هو الدليل فحسب.. "فإذا كانت الظاهرة (أ) والظاهرة (ب) ظاهرتَين مرتبطتَين إحداهما بالأُخرى، فمِنَ المنطقيّ أن ينتج عن هذا الارتباط أربعةُ احتمالات:

  1. (أ) قد تسبّب (ب).
  2. (ب) قد تسبب (أ).
  3. قد يكون كلٌ من (أ) و(ب) نتيجةً لسبب آخر مشترَك بينهما (ج).
  4. قد لا يربطُ الاثنيَن أيُّ علاقة سببية ويكونان -ببساطة- مترابطَين عرضيًّا (2)."

- لا تسخري منّي إذا سألتُك مجددًا: لماذا أضيعُ أشيائي كلما نظرت إليّ تلك الفتاة؟!

- إنّكَ ما تزال تربط الأمرين معًا دون أي مسوّغٍ منطقي.. ومع ذلك يجبُ أن تعرفَ أنَّ "الارتباطات غير كافية في حد ذاتها لتحديد السببيّة، لكنَّ هذا لا يعني أنْ ليس لها صلة في تحديد الأسباب، بل تؤخذ بالحسبان لبناءِ مُعظَم الأحكام المتعلقة بالأسباب، وإنه ليس من السهل أيضًا تمييزُ مواجهةِ الشخصِ مجرَّدَ ارتباطٍ عرَضيّ من مواجهتهِ ارتباطًا سببيًّا حقيقيًّا (1,2)." 

- يبدو أنّكِ على حق.. ولو أنّني أحتاج إلى مزيدٍ من التحقق.. لكن أخبريني.. ماذا يمكنني أن أفعل لتجنُّبِ الوقوع في هذه المغالطة؟

- يكونُ تجنّبِ مغالطةِ "معه؛ إذًا هو بسببه" بدراسةِ العلاقات الترابطية بين الأحداث بعناية بدلًا من افتراض أنَّ أحدها يتبعُ الآخر (3).

المصادر:

1- Warburton N. Thinking from A to Z. 2nd ed. London: Routledge; 2000. p.40-42

2- Foresman G, Fosl P, Watson J. The Critical Thinking Toolkit. 1st ed. New Delhi: Wiley Blackwell; 2017. p.171-172

3- Manninen B. False Cause: Cum Hoc Ergo Propter Hoc. In: Arp R, Barbone S, Bruce M, ed. by. BAD ARGUMENTS: 100 of the Most Important Fallacies in Western Philosophy. Glasgow: Wiley Blackwell; 2019. p. 335-337. 

4- Dowden B. Fallacies | Internet Encyclopedia of Philosophy [Internet]. Iep.utm.edu. [cited 18 April 2021]. Available from: هنا