الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الأخلاق وعلم الجمال

نسبية الأخلاق؛ دعوةٌ إلى التسامح أم إباحةٌ للمحظورات؟!

إنَّ الأخلاق هي ما تحدد ما هو جيد أو سيئ لحياة الإنسان، ولكنَّها -على خلاف العلم- لا تتعامل مع الحقائق مثله بل مع مسائل قيمية؛ ممَّا يجعل الناس يختلفون في ما هو خير وما هو شر، وما يزالون ينشغلون بهذه الأسئلة.

فهل تكون الأخلاق موضوعية (Objective) أو ذاتية (Subjective)؟

ما يزال الخياران مطروحَين فلسفيًّا، ولكن؛ أيهما صحيح (1)؟!

إنَّ النسبية الأخلاقية (Moral Relativism) هي المذهبُ القائل بأنَّ الأحكام الأخلاقية تكون صحيحة أو خاطئة من منظورٍ معين فحسب؛ كالمجتمع والمدة الزمنية المعنيين، وبأنَّه لا توجد وجهة نظر متفوقة على الآراء الأخرى جميعها (2)، مع استحالة إثبات وجود وجهة النظر المتفوقة هذه لعدم إمكانية وجود حقائق أخلاقية يمكن ملاحظتها تجريبيًّا؛ الأمر الذي يؤدي إلى امتلاك الناس أنواعَ الآراء الأخلاقية المتضاربة جميعها (1). 

وقد ارتبطت النسبية الأخلاقية بادعاءات أخرى عن الأخلاق غالبًا، وبخاصةٍ الفرضية القائلة بأنَّ الثقافات المختلفة تُظهر قيمًا أخلاقية مختلفة جذريًّا غالبًا، وارتبطت بفكرة إنكار وجود قيم أخلاقية عالمية مشتركة بين المجتمعات البشرية جميعها، والإصرار على وجوب الامتناع عن إصدار الأحكام الأخلاقية على المعتقدات والممارسات المميزة لثقافات الآخرين أيضًا (2).

ولكن هناك اختلافات من هذا النوع بين الأفراد أيضًا وليس بين المجتمعات فحسب؛ إذ إنَّ شيئًا ما قد يبدو مُستنكرًا لأحدهم، ولكنَّه بالنسبة إلى شخص آخر يكون مقبولًا (1).

كيف بدأت فكرة الأخلاق النسبية؟ 

من وجهة نظر مُعظم الناس على مر التاريخ فإنَّ الأسئلة الأخلاقية لها إجابات صحيحة موضوعية؛ أي هناك حقائق أخلاقية واضحة مثلما توجد حقائق واضحة عن العالم، ولكن في القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان واجه هذا الافتراض التحدي لأول مرة.

وكانت الفكرة أنَّ المعتقدات والممارسات الأخلاقية مرتبطة بالعادات والأعراف، وهذه تختلف اختلافًا كبيرًا بين المجتمعات، وأكَّد السوفسطائي بروتاغوراس ذلك حين قال: "إنَّ الإنسان مقياس الأشياء جميعًا"، وعلى التضاد من ذلك فقد اتخذ أفلاطون موقفًا صارمًا من الفكرة بدفاعه عن الأخلاق الموضوعية، في حين غطت هذه الأفكار في سُبات عميق في عصر هيمنة السلطة الدينية المسيحية في أوروبا (2).

وكان أول ظهورٍ جديد للنظرة النسبية إلى الأخلاق في كتابات ميشيل دو مونتاين (Michel de Montaigne 1533-1592) في ستينيات القرن السادس عشر، فقد جمع مونتاين قائمته الخاصة بالأعراف والتقاليد المتنوعة جذريًّا، التي يمكن العثور عليها في مُجتمعاتٍ مختلفة، وأكَّد بدوره أنَّ قوانين الضمير التي يُقال إنَّها تُولد من الطبيعة إنَّما تُولد من الأعراف فعليًّا.

فقد كتب في مقال له يصف حياةَ ما يُسمَّى بالبرابرة في العالم الجديد، مشيرًا إلى شجاعتهم في المعركة والبساطة الطبيعية لأخلاقهم وبنيتهم ​​الاجتماعية غير المعقدة منتقدًا العقدة العنصرية للأوروبيين "المتحضرين" الذين يعتقدون بسذاجةٍ أنَّهم متفوقون أخلاقيًّا على هؤلاء الناس.

وتوالى فلاسفة عصر التنوير على محاولة دحض فكرة الأخلاق الموضوعية تارةً أو رفض الأخلاق كليًّا تارةً أُخرى (2).

أهم أنواع النسبية الأخلاقية

طوَّر الناس تفكيرهم تجاه الإشكاليات الأخلاقية على مر الزمن، وقد فعلوا ذلك نتيجة التفاعلات الاجتماعية وتطور المجتمعات نفسها، ولكن يختلف ما يجب أن يفعله الإنسان -محددات سلوكه عمَّا هو جيد وما هو سيئ- حسب كل ثقافة، ومن ثمَّ أصبح لدينا ثقافات مختلفة لها قوانين وأعراف وقواعد أخلاقية مختلفة. 

وفي أثناء القرن العشرين بدأ عديدٌ من الناس يميلون إلى قبول الأخلاق النسبية، وبذلك فقد أصبحت جزءًا من تفكير كل إنسان حتى أولئك الذين ما يزالون يعتقدون ببعض الأفكار المطلقة (Absolutist Ideas)، وهذا ممكن بسبب وجود أنواعٍ مختلفة من النسبية الأخلاقية (3).

1-  النسبية الأخلاقية الوصفية (Descriptive Moral Relativism)

تَعدُّ الأخلاق عنصرًا متغيرًا في الثقافات المختلفة، وأنَّ الأعراف والعادات والمبادئ الأخلاقية قد تختلف جميعها من ثقافة إلى أخرى، فقد يُعتقد أنَّ شيئًا ما أخلاقيٌ في بلدٍ ما في حين يُمكن أن يُعدَّ غير أخلاقي -بل وغير قانوني- في بلد آخر. 

وأبسط تفسيرٍ لها وأقلها إثارةً للجدل أنَّ النسبية الوصفية تنفي -حصرًا- فكرة أنَّ الثقافات جميعها تشترك في النظرة الأخلاقية نفسها للأمور، وهي مدعَّمة بأدلة تجريبية أنثروبولوجية (2,3). وعلى سبيل المثال؛ أكل لحم البقر مُباحٌ في أوروبا في حين أنَّه يُعدُّ غير أخلاقي في الهند، وبالمثل؛ دراسة المرأة وعملها مباحان في الولايات المتحدة في حين أنَّهما يُعدَّان غير أخلاقيَّين في أفغانستان.

وفي الجدول أدناه بعض الأمثلة عن بعض الجوانب التي قد تبدو أخلاقيةً في الشرق الأوسط ولكنَّها ليست كذلك في بلدانٍ أخرى:

2-  النسبية الأخلاقية المعيارية (Normative Moral Relativism)

وفقًا لهذا النوع فإنَّه من الخطأ الحكم الأخلاقي على المعتقدات والممارسات الأخلاقية التي تُدرَج ضمن إطار أخلاقي مختلف عن الذي يتبنَّاه الفرد الذي يطلق الحكم، وترى أنَّ ما يحدث في مجتمع لا ينبغي الحكم عليه إلا عن طريق معايير ذلك المجتمع (2)، فعلى سبيل المثال؛ قد يبدو تعليم الفنون القتالية للأطفال أمرًا منبوذًا في المجتمعات الغربية، ولكنَّه أمرٌ طبيعي في بعض المجتمعات الآسيوية. 

وتُطالب النسبية الأخلاقية المعيارية بمعرفة الفرق بين المطالب الأخلاقية النهائية والمطالب الأخلاقية الظرفية التي تعتمد على الموقف الشخصي لكل فرد، بمعنى آخر؛ قد يكون الجميع مُطالَبين بسداد ديونهم وهو مطلبٌ أخلاقي نهائي للمجتمع كله، ولكن ليس عليهم جميعًا أن يُسدِّدوا للبنك أو للدولة أو لشخصٍ ما، فهنا تختلف المطالب الأخلاقية باختلاف الظروف (4). 

وبذلك، لا توجد مبادئ أخلاقية مطلقة صالحة لكل مكان وزمان وفقًا لهذا النوع، ويختلف كلٌّ من الصواب والخطأ الأخلاقيَّين للأفعال من مجتمعٍ إلى آخر؛ لأنَّ المبادئ الأساسية للأخلاق هي نسبية دائمًا (3).

3-  النسبية الأخلاقية الثقافية (Cultural Moral Relativism)

تؤكد النسبية الثقافية أنَّه من الأفضل فَهْم معتقدات البشر وممارساتهم عن طريق وضعهم ضمن السياق الثقافي الذي حدثت فيه هذه الممارسات، وقد طُرحت في الأصل بوصفها مبدأً منهجيًّا أساسيًّا للأنثروبولوجيا الحديثة (2).

وتصف النسبية الثقافية مبدأ الحقيقة بأنَّ هناك ثقافاتٍ مختلفة ولكل منها طرائق مختلفة في التصرف والتفكير والشعور؛ إذ يتعلم أفرادها من الأجيال السابقة، ومن المعروف تمامًا أنَّ الناس يفعلون أشياء مختلفة في أنحاء العالم، فيرتدون ملابس مختلفة، ويأكلون على نحو مختلف، ويتحدثون لغاتٍ مختلفة، ولديهم عادات مُتباينة (3).

4-  النسبية المافوق الأخلاقية (Meta-Ethical Relativism)

تؤيد النسبيةُ المافوق الأخلاقية الفكرةَ الجوهرية من النسبية الأخلاقية، وهي أنَّ الأحكام الأخلاقية ليست صحيحة أو خاطئة بأيِّ معنى مطلق، ولكنَّها تتعلق بمواقف ظرفية معينة فحسب. 

ويُمكن أن تكون هناك أحكامٌ أخلاقية متضاربة تخص حالة معينة، ولكن يُمكن أن تُعدَّ هذه الأحكام جميعها أو بعضها صحيحةً في الوقت نفسه، ومثال على ذلك؛ أنَّه ربما يتفق الجميع على أنَّ "الكذب لاأخلاقي"، ولكن يبدو أنَّ الكذب على مجرم لحماية الضحية هو فعل مُبرَّر، فالفكرة هي أنَّ شخصين بأخلاقياتٍ مختلفة قد يصلان إلى أحكام أخلاقية متضاربة بشأن حالة معينة؛ لذا، يمكن عدُّ كل من الرأيَين صحيحًا في هذا النوع من النسبية، ولكن بشرط أن يكون كل من الرأيين مبنيَّين على حقائق واستنباطات منطقية، وأن يكونا مبنيَّين عن الحالة الظرفية نفسها بحذافيرها (4,2).

انتُقد هذا النوع لأنَّه يدفع بالأشخاص إلى مُناقضة أنفسهم في القضايا الأخلاقية الحساسة، فعندما يُقال إنَّ الحُكْمين صحيحان، فقد يعني هذا الادِّعاء أنَّ كليهما صحيح أو أنَّ كليهما له ما يبرره على أقلِّ تقدير، بالنظر إلى الحقائق والاعتبارات الأخرى جميعها، وفي كلتا الحالتين، يبدو أنَّ التناقض حتمي، فإذا افترضنا أنَّ شخصًا يؤكِّد أنَّ الإجهاض خاطئٌ وأنَّ شخصًا آخر يؤكِّد أنَّ الإجهاض ليس خاطئًا، فما من داعٍ لنكران أنَّ هذا خلاف حقيقي، والمشكلة هنا أنَّه في العالم الحقيقي ستخلقُ مناقشةُ موضوع مشابه من هذا المنظور النسبي تناقضًا حتميًّا بادِّعاء أنَّ كلا الحُكْمين صحيحٌ (4).

موقف ناقد من النسبية الأخلاقية

يرتكز قدرٌ كبيرٌ من الجدل الدائر في النسبية الأخلاقية على ادعاء المدافعين عنها بأنّها تُعزز قيم التسامح بين مختلف المجموعات البشرية، ولكنَّ هذه النقطة على وجه التحديد لاقَت عدة انتقاداتٍ يمكن تلخيص أهمها في ثلاث نقاط:

1-التسامح يختلف عن الاحترام.

وهي أنَّ إظهار الاحترام الحقيقي للثقافة يعني أخذ معتقداتها على محمل الجد؛ ممَّا يعني النظر إليها بوصفها مادَّةً للتقييم النقدي، وعليه فإنَّ نقد معتقد أو تصرف لا يعني بالضرورة التقليل من احترامه، ولكنَّ التوجه النسبي في الأخلاق يميل إلى تجنُّب أي تقييمٍ لمعايير الثقافات الأخرى باسم التسامح.

2- يفترض دعاة النسبية الأخلاقية بأنَّ مبدأ التسامح يجب أن يكون التزامًا عالميًّا.

يقول النسبيون إنَّنا يجب أن نتسامح مع المعتقدات والممارسات الموجودة في الثقافات الأخرى، ولكنَّ المعضلة تكمن فيما إذا كانت دعوتهم تلك يجب أن تنطبق على الجميع، فإن كانت كذلك يصبح التسامح مبدأً أخلاقيًّا عابرًا للثقافات، وبهذا يكون مبدأً قطعيًّا غيرَ قابل للتغيير؛ ممَّا يخالف جوهر النسبية الأخلاقية.

 

3- إنَّ دعوةَ النسبية للتسامح مضلِّلةٌ أخلاقيًّا لأنَّه لا ينبغي التسامح مع كل شيء.

نجدُ هنا نسخةً أخرى من الاتهام القائل بأنَّ النسبية الأخلاقية تتبنى موقف "كل شيء مباح" الذي يجعل أخطاءً واضحة في مجتمعات أخرى -مثل الاضطهاد الديني أو التمييز الجنسي- قد تبدو مقبولة. 

ولكنَّ أكثر الأسئلة العملية صعوبةً لا يتعلق بما إذا كان ينبغي لنا أن ننتقد المعتقدات والممارسات الموجودة في الثقافات الأخرى، ولكن بما إذا كان لدينا ما يبرر محاولة فرض قيمٍ أخرى بديلة، وعليه يظهر السؤال المتعلق بممارساتٍ مثل؛ اضطهاد الأقليات الدينية أو العرقية وختان الإناث وإضفاء الشرعية على العنف ضد المرأة (2).

وتبقى مسائل الأخلاق من أصعب المسائل والمشكلات التي واجهها الإنسان منذ الأزل، وعلى الرغم من اجتذاب النسبية الأخلاقية على مر السنين قدرًا كبيرًا من النقد، ولكنَّها تبدو طريقة تفكيرٍ آخذةً بالازدياد. 

وتبدأ الأسئلة الحقيقية عن الأخلاق من ممارساتها العملية كما أسلفنا أعلاه، فهل يمكن نسب المآزق الأخلاقية كلها إلى النسبية الأخلاقية؟ أم يمكننا أن نجد مرجعيةً أخلاقيةً عالميةً وملزمةً للجميع؟

المصادر:

1. Graham G. Theories of ethics: An Introduction to Moral Philosophy with a Selection of Classic Readings. 1st ed. New York: Routledge; 2011. P. 1-3

2. Westacott E. Moral Relativism | Internet Encyclopedia of Philosophy [Internet]. Iep.utm.edu. [cited 2 May 2021]. Available from: هنا

3. Sullivan S, Pecorino P. Ethics Online Text Textbook [Internet]. Qcc.cuny.edu. 2002 [cited 2 May 2021]. Available from: هنا

4. Harman G. What is moral relativism?. In: Goldman A, Kim J, ed. by. Values and Morals. Dordrecht: Springer; 1978. p. 143-161. Available from: هنا