الفنون البصرية > سلسلة تاريخ الفن

الفن في عصر الباروك

انتشرت حركة الباروك (Baroque) في جميع أنحاء إيطاليا ودول أوروبية أُخرى بين عامي 1600 و 1750م، وأصبحت ذات شعبية خاصة في فرنسا وإسبانيا والنمسا، ويشير مصطلح الباروك إلى اللؤلؤة غير منتظمة الشكل، وذلك نسبة للاسم البرتغالي باروكو(barroco) (1)، وتعود التسمية إلى كون تلك الحقبة متميّزة بالتعقيد والتناقض، فيمكن رؤية هذا الاتجاه في المظاهر الفخمة لقصر فيرساي المصممة للملك لويس الرابع عشر، على النقيض من ذلك، كان الكثير من فن أوروبا الشمالية مقيَّدًا ومتشددًا، مثل، إيماءات الطبقة الوسطى الهادئة للرسام الهولندي يان فيرمير (2)Jan Vermeer

*الأولى لوحة لويس الرابع عشر، تليها لوحة الفتاة ذات حلق اللؤلؤ للفنان Jan Vermeer.

بدأ عصر الباروك مع الإصلاح البروتستانتي الذي شرعه مارتن لوثر للكنيسة الكاثوليكية، وانتهى عندما اجتاحت الثورات العالمية -السياسية والصناعية- أوروبا وأمريكا (2)، شرعت الكاثوليكية في حملات بناء وتزيين مكثّفة تهدف إلى تسليط الضوء على أصولها القديمة ومعتقداتها وسلطتها المقدّسة، وفي الوقت ذاته تبنّى ملوك أوروبا فنّ الباروك للإعلان عن قوّتهم ومكانتهم، أمّا في في البلدان البروتستانتية، وخاصة في الجمهورية الهولندية المستقلة حديثًا (هولندا الحديثة) تغيّر المناخ الفني جذريًّا أعقاب الإصلاح البروتستانتي، واختفى اثنان من أغنى مصادر المحسوبية وهما النظام الملكي والكنيسة، وبدلًا من ذلك، نشأت طبقة وسطى مزدهرة على نحو متزايد حريصة على التعبير عن وضعها وشعورها الجديد بالفخر الوطني، وظهر سوق جديد لتلبية الأذواق الفنية لهذه الطبقة عن طريق لوحات صغيرة مناسبة للعرض في المنازل، وفي عام 1648م، مع توقيع معاهدة ويستفاليا، هدأت النزاعات بين البروتستانت والكاثوليك في أوروبا (1).

حاولت الكنيسة الكاثوليكية جذب المصلين من خلال الفنون البصرية بدلًا من النصوص، وأصبح برأيها أنّ الغرض من الفنّ هو التعليم وإلهام المؤمنين والعمل كدعاية للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وفي روما "مصنع الصور العظيم في العالم" صوّر الفنان مايكل أنجلو ميريسي الفن بعاطفة كاثوليكية مضادة للإصلاح البروتستانتي، كما يشتهر الفنان كارافاجيو (Caravaggio) أيضًا برسم النمط المعروف باسم المذهب الطبيعي (Naturalism)، وفي إحدى لوحاته رسم يسوع وهو موضوع على الحجر الذي سيُغلق به القبر، وهو محاط بأربع شخصيات: أمه، مريم المجدلية، نيقوديموس، ومريم كليوفا، التي ترفع ذراعيها إلى السماء (2). 

*لوحة المسيح يتم إنزاله من الصليب لـ Caravaggio 

كما شهد عصر الباروك أعظم النحاتين الذين عاشوا فيه وهو(Gianlorenzo Bernini)؛ إذ كان برنيني كاثوليكيًا متدينًا، وقد تأثر بدراسته الدقيقة للرخام الروماني واليوناني العتيق في الفاتيكان، وقد تأثّر (Bernini) بالأوبرا على نحو كبير؛ إذ يمكن اعتبار جميع منحوتاته مشاهد أوبرا في شكل ثابت، غالبًا ما دمج برنيني الرسم والنحت والعمارة في ما يسميه الألمان (Gesamtkunstwerk) "عمل فني متكامل" ،وأعظم مثال على ذلك هو كنيسة كورنارو في سانتا ماريا في روما، إذ كُلّف برنيني بتزيين مساحة فرعية ضحلة على طول جانب الكنيسة الصغيرة كما في منحوتته نشوة سانتا تيريزا " The Ecstasy of Santa Teresa"، وكانت تيريزا واحدة من أشهر القديسات في مكافحة الإصلاح البروتستانتي؛ إذ تروي تيريزا عن ملاك جميل ظهر لها وجهه "ملتهب" في أكثر روايات النشوة و التصوف المسيحي (2).

*منحوتة نشوة سانتا تيريزا لـ Bernini 

سافر برنيني إلى باريس عام 1665م، بدعوة من لويس الرابع عشر؛ إذ أراد الملك من الإيطاليين تصميم مقر إقامة ملكي فرنسي جديد. بحلول هذا الوقت، كان برنيني مشهورًا جدًا لدرجة أنّ الحشود اصطفّت في شوارع كل مدينة على طول الطريق لمشاهدته وهو يمر، ولكنه رفض صورة الفروسية المقترحة للملك، وعاد الفنان إلى إيطاليا دون رادع، واستمر في تلقي وتنفيذ تكليفات كبرى من رعاة الكنيسة، وتوفّي عن عمر يناهر الـ 81، وشكلّت وفاته نهاية الهيمنة الفنيّة لإيطاليا في أوروبا (2) ص 14.

في حين يمكن اعتبار برنيني أعظم نحات في عصر الباروك، فإنّ دييغو فيلاسكيز(Diego Velazquez) يُعدّ أعظم رسام في تلك الفترة، حيث ولد في جنوب إسبانيا، ثم انتقل إلى العاصمة الإسبانية مدريد، وهناك أصبح رسام البلاط للملك فيليب الرابع، وتعدّ لوحته خادمات الشرف "Las Meninas" أعظم لوحاته، والتي تظهر الفنان في أثناء عمله في الاستوديو الملكي الخاص به، في حين دخول الأميرة الشابة مارغريتا وحاشيتها والخادمات والكلاب إلى الاستوديو من اليمين(2) ص 14 و15.

*لوحة خادمات الشرف لـ Velazquez 

في فرنسا كان لويس الرابع عشر راعيًا عظيمًا للأوبرا والفن، وصمم جميع الفنون لهدف واحد وهو تمجيده، مثل، الأباطرة الرومان قبله، أقام العديد من تماثيل الفروسية كرموز للسلطة الملكية، وخلال استلامه للحكم ورغبة منه بالسيطرة على الفنون عيّن لويس الرابع عشر مديري أكاديمية الفنون وأشرف على إنشاء منهج صارم قائم على فلسفة عقلانية، إضافة إلى أنّ قادة الأكاديمية أخذوا يصنفون الفنانين؛ إذ حطّوا من شأن رسامين مثل (Caravaggio). سعى لويس لتحويل القاعدة الأسطورية للثقافة من إله إلى ملك من خلال تلاعبه بالأكاديمية ومنتجاتها، وبذلك استخدم لويس الرابع عشر الفن لنشر تبرير حكمه (2) ص 22.

كان موقف الأكاديمية الفرنسية متناقضًا تجاه المرأة. في البداية، انتُخب عدد قليل من النساء، مع أنهن لم يتمتعن بجميع امتيازات الأعضاء الذكور، ولكن ماري فيجي ليبرون (Marie Vigee-Lebrun) استطاعت أن تكون أشهر فنانة عصرها، ومن لوحاتها (صورة للملكة ماري أنطوانيت وأولادها)؛ وهي زوجة لويس الرابع عشر، ولكن اللوحة تظهر أنّ جمال ونعمة الحياة هي داخل فيرساي، وما لا تظهره هو الحقائق الاجتماعية خارج القصر؛ إذ كان المواطنون يكافحون ضد تهديد الجوع المستمر وتفاقم الفقر، في عام 1789، انتفض العمال الفرنسيون في باريس، وهربت فيجي ليبرون في وقت الثورة ليلة اعتقال الملك والملكة وواصلت نجاحاتها الأُخرى في أوروبا (2) ص 24.

*لوحة ماري أنطوانيت وأطفالها لـ Vigee-Lebrun

حقق فنانو الباروك مثل (Gentileschi) و (Poussin) و (Rubens) إحساسًا متزايدًا بالدراما من خلال الحركة. في كثير من الأحيان، كانت هذه الأيقونات المليئة بالحركة مستوحاة من حكايات من الكتاب المقدس وقصص من الأساطير القديمة (1)، ففي لوحة (Gentileschi) أنزل ديفيد الراعي الشجاع غولياث غير المستنير ثم قطع رأسه، وأصبح موضوع الصورة رمزًا للانتصار الحقيقي على الإلحاد (3).

بعد الثورة الفرنسية برز فنانون مثل جاك لويس ديفيد Jacques Louis David و من أشهر لوحاته موت سقراط، حيث تصور الفيلسوف اليوناني الشهير يختار الموت بدلاً من قبول الحكم الجائر الصادر عن العملية السياسية الأثينية، كان ديفيد يأمل في أن تعمل لوحاته على "إثارة" الجمهور وجعله أكثر انفتاحًا على التغيير السياسي، حيث تدعم لوحاته المشاعر المعادية للملك والكنيسة التي كانت تنمو في فرنسا في هذا الوقت (2) ص28.

لوحة  موت سقراط لـ Jacques Louis David. 

يُعدّ الرسام الأسباني فرانسيسكو دي جويا (Francisco de Goya) من أوائل الرسامين الذين أظهروا تحول الفنان من جهاز عرض للأحداث -بعد انهيار دولة نابليون بونابرت عام 1815- إلى جهاز عرض لذات الفنان، لقد اختار الحماقات التي لا حصر لها والتي يمكن العثور عليها في أي مجتمع متحضّر، من التحيزات المشتركة والممارسات الخادعة التي جعلتها العادة أو الجهل أو المصلحة الذاتية مألوفة، فكانت تلك الموضوعات التي يشعر أنّها المادة الأكثر ملاءمة للسخرية، والتي في الوقت ذاته، تحفّز خيال الفنان، ففي لوحته "El Sueño de la Razón produce Monstruos" أو "نوم العقل يُنتج الوحوش"، يظهر رجلًا نائمًا على مكتبه، حيث المؤلف يحلم، وهدفه الوحيد هو استئصال الداء الضار، وإدامة شهادة الحقيقة القائمة على أساس سليم (2) ص 34.

في منتصف القرن التاسع عشر، استُخدم مصطلح الباروك لوصف الصفات المزخرفة والمعقّدة الموجودة في العديد من أمثلة الفن والموسيقى والأدب في القرن السابع عشر، و في النهاية، جاء المصطلح ليشير إلى الفترة التاريخية ككل، وعلى الرغم من ظهور أسلوب الباروك منذ قرون، إلا أنه لا يزال أحد أكثر الحركات المحبوبة في تاريخ الفن. سواء كنت تحدق في مجموعة لا تقدر بثمن من اللوحات في متحف اللوفر أو ترمي عملة معدنية في نافورة تريفي الشهيرة في روما، فإنَّ الإرثَ الدائم للفنّ والعمارة الباروكية عظيم جدًا (1).

المصادر:

1- My Modern Met. 2021. Exploring the Extravagance and Drama of Baroque Art and Architecture. [online] Available at: هنا [Accessed 3 March 2021].

2- Csun.edu. n.d. [online] Available at: هنا [Accessed 3 March 2021].

3- Onlinecollection.nationalgallery.ie. n.d. David and Goliath – Objects – National Gallery of Ireland. [online] Available at: هنا [Accessed 3 March 2021].