العمارة والتشييد > التصميم العمراني وتخطيط المدن

مستقبل الإنسان في ظل حكم الذكاء الاصطناعي، إلى أين؟ ؛ العمارة وعلم الأعصاب

تترابط الهندسة المعمارية والتصميم بصورةٍ وثيقةٍ مع العلوم الطبيعية والاجتماعية المختلفة على حدٍّ سواء، ذلك أن "المستخدم" لمنتجات علم الهندسة والتصميم هو الإنسان.

يقوم (علم الأعصاب المعماري - Neuroscience for Architecture) على دراسة الهندسة المعمارية بالنسبة لتأثير البيئة المحيطة في دماغ الإنسان، وكيف يمكن تحسين الهندسة المعمارية مسقبَلًا اعتمادًا على فهم استجابات الدماغ للوسط المحيط.

بعبارةٍ أخرى؛ فإن هذا يعني استخدام علم الأعصاب في الهندسة المعمارية  لخلق تصميماتٍ معماريةٍ قائمةٍ على ردود فعل الأشخاص؛ مما يمكننا -على سبيل المثال- من تقليص الضغط العصبي أو تحسين عملية المعرفة في البيئات التعليمية أو زيادة الإنتاجية؛ سواءً في المصانع أو في بيئات البحوث العلمية أو في المنزل للأشخاص المُصَابين بمرض الزهايمر، ويمكِّننا بمشاركة علم الأعصاب أن نشهد انتقالًا في الهندسة المعمارية الذكية من تعديل درجات الحرارة والإضاءة والصوت للأبنية والغرف إلى نوعٍ من تصميم الأبنية الذي تشارك فيه الغُرَف في عمليات التواصل مع مستخدميها لخدمتهم بصورةٍ أفضل (1).

في هذا الإطار؛ أثبتت دراساتٌ عدةٌ أن الصور المرئية لمشاهدَ طبيعيةٍ تسهم في تقليص المشاعر السلبية كالخوف والألم والقلق، وتساعد في استعادة الحالة الإيجابية، وتزعم هذه الدراسات أن العمل الجاري سوف يوفِّر طريقًا قويًّا وموضوعيًّا لهندسة العواطف من خلال الشكل، وطريقةً للاستفادة من نظريات علم الأعصاب وأدواته وطرقه لتقديم نتائجَ وظيفيةٍ يمكن التنبُّؤ بها في البيئة المبنية (2).

لكن لا بدَّ لنا في هذا السياق أولًا أن نتعرف بصورةٍ أفضل إلى آلية عمل الدماغ البشري.

يعتمد (تحليل الدماغ البشري - Analysis of the Brain) على تقسيمه إلى منظومتين رئيستين: منظومة تفكيرٍ سريع، ومنظومة تفكيرٍ بطيء؛ وتُعدُّ منظومة التفكير السريع ما دون المستوى الواعي، وهي في طبيعتها سريعةٌ وتلقائيةٌ وإرشاديةٌ وبديهيةٌ وشاملةٌ واندفاعيةٌ وعاطفية، وهي المسؤولة عن التحكم بالوظائف التي تضمن سلامة الجسم داخليًّا وخارجيًّا؛ في الوقت الذي تُعدُّ فيه منظومة التفكير البطيء واعيةً وإدراكيةً وتصنيفيةً وتحليليةً وانعكاسية.

كل النشاطات و ردَّات الفعل البشرية تكون موجهةً تحت إشراف هاتين المنظومتين على الرغم من أن لكلٍّ منهما قوًى مختلفةً تؤثِّر في السلوك وصنع القرار والأداء بصورةٍ عامةٍ (3).

كيف يمكننا الاستفادة من هذا التحليل المُوجز لآلية عمل العقل البشري في إطار عمل الهندسة المعمارية وتصميم البناء؟

إن لإدراك الأماكن المحيطة بنا تأثيرٌ كبيرٌ في نشاط أدمغتنا؛ فعندما يُميِّز الفرد مكانًا ما على أنه منطقته الخاصة؛ تميل مستويات الانتباه لديه إلى الانخفاض، مما يساعد الفرد في الاسترخاء فيتأثر سلوكُه.

عندما يُوضَع مرضى الزهايمر في غرفٍ خاصةٍ بهم بتصميمٍ (ديكور) خاصٍّ بهم؛ يكون سلوكهم أكثر هدوءًا وأقل عدوانية، إذ ينشأ معها ترابطٌ يجعل الأشياء مألوفةً بالنسبة لهم، وتتراجع مستويات التوتر النفسي لديهم نتيجةً لشعورهم كأنهم في منزلهم.

على النقيض من ذلك؛ فإن الأماكن التي تُؤوَّل في المنظومة الأولى في دماغنا على أنها تهديدٌ لنا؛ تولِّد تلقائيًّا ردَّاتِ فعلٍ قتاليةٍ أو سلوكَ هربٍ.

وفي المقابل؛ فإن الأماكن التي تحفِّز السلوك العفوي تسهم في ظهور الإبداع والتعاون بين مستخدمي هذه الأماكن (3).

لكن؛ إلى أي مدًى يتجه المهندسون المعماريون إلى إنشاء هذا النوع من البيئات الذكية التي توفِّر احتياجات الفرد المادية والعقلية كافةً وتسهم في تحقيق رفاهيته؟ وما مصير مستقبل الإنسان في تلك البيئات؟

يمكن القول إنَّ (المدن الواعية - Conscious Cities) ستكون بموضعٍ متوسطٍ بين الأفراد والأحياء السكنية من ناحية؛ والدول من ناحيةٍ أخرى، أي إنَّ المدينة تتكوَّن من تكتُّلٍ من أنظمةٍ فرعيةٍ متنوعةٍ يُعدُّ الإنسان عنصرًا أساسيًا في معظمها؛ فالمدن لن تكون كياناتٍ واعيةً بالطريقة نفسها التي يكون البشر واعين بها، لكن يمكن عدُّها أنظمةً هادفةً مبنيةً على أنظمةٍ فرعيةٍ هادفةٍ بالطريقة نفسها التي يقوم فيها وعي الإنسان على أعضاءٍ وشبكاتٍ عصبيةٍ.

 فنحن البشر لا يمكن أن نكون واعين بهذه الأنظمة كلها إلا على مستوًى إجماليٍّ من التفاصيل بطريقةٍ يمكننا مناقشة الهدف العام منها، وستتخصص مجموعةٌ من البشر بمهمة الوساطة بين صنَّاع السياسات (متَّخذي القرار) وهذه الأنظمة لترجمة القرارات المتَّخذة إلى أهدافٍ يمكن للأنظمة تطبيقها، وفي حال حدوث خللٍ ما في هذه الأنظمة الفرعية؛ سيتطلب الأمر جهودًا مُكثَّفةً من الأشخاص المختصين في تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي وتطبيقات العلوم المعرفية في مجال التصميم.

أي أنه لن يقوم ذكاءٌ اصطناعيٌّ ضخمٌ واحدٌ بالتحكُّم بالمدينة؛ إنما سيكون التحكُّم مُشترَكًا بين البشر والحواسب، فأهمية البشر الحيوية ليست فقط بكونهم يحلُّون المشكلات؛ وإنما لدورهم في الكشف عن المشكلات البشرية التي لا يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تدركها، ومن ثم صياغتها بوصفها أهدافًا واضحةً تمكِّن الأنظمة من حلها (4).

بخطًى سريعة؛ نُقبِل على التعامل مع الذكاء الاصطناعي والتعايش معه بحسبانه جزءًا طبيعيًّا من حياتنا اليومية على الرغم من التساؤلات العديدة التي يطرحها بعضهم حول شكل الحياة في المستقبل القريب، لا سيما وأن العديد من المهن المعروفة اليوم قد تصبح في القريب العاجل في طيِّ النسيان.

ويبقى السؤال: "هل سيتمكن الإنسان من التغلب على تلك الصعوبات ويعيش الثورة الصناعية الرابعة بأقل الخسائر المادية والاجتماعية الممكنة؟".

المصادر:

1_Arbib, M.A (2012). Brains, machines and buildings. Towards a neuromorphic architecture. Intelligent Buildings International, 4:3, 147-168 [Internet]. [cited 2020 Dec 08].  Available from: هنا

2_Arbib, M. A, Dougherty, B.O. The evolution of neuroscience for architecture. introducing the special issue Intelligent Buildings International. Volume 5, 2013 - Issue sup1 [Internet].[cited 2020 Dec 08]. Available from: هنا

3_Paiva, A.D. Neuroscience for Architecture: How Building Design Can Influence Behaviors and Performance [Internet].[cited 2020 Dec 08]. Available from:  هنا

4_Arbib, M.A (2017). Conscious Design of Cities versus Design of Conscious Cities. [Internet]. [cited 2020 Dec 08]. Available from: هنا