الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الأخلاق وعلم الجمال

كيف اختلف الفلاسفة في مفهوم العدالة تاريخيًّا؟!

مع تعقد الحياة البشرية وانتقالها من الحياة البدائية إلى الحضارة والتمدن؛ إذ بدأ الإنسان بالكتابة والتوثيق، برزت الحاجة لقوانين وأنظمة تضبط حياته، وبتتبّع تاريخ الحضارات نجد أن أحد أسس الحضارة القوية هو القانون الذي يمثل روح العدالة، وغالبًا ما ارتبط مفهوم العدالة بالنور والتوازن والقوة في ذهن الإنسان القديم.

وأبرز الأمثلة على ذلك التمثيل الرمزي للعدالة في حضارتي بلاد الرافدين ومصر القديمة؛ إذ يزيّن مسلة حمورابي نقشٌ يمثل الإله شمش (إله الشمس) جالسًا على عرشه يسلم بيده اليمنى أدوات القياس للملك حمورابي (1)، وفي مصر القديمة كانت ربة العدالة (ماعت) تُمثّل كل معاني الحق والصدق والعدل والنظام، لتحكم بريشتها في كفة الميزان مقابل قلب المتوفى في الكفة الأخرى (2)، ويمكن أن نستنتج من ذلك أن الإنسان القديم أدرك أنه بحاجة للعدالة وأنها ليست عشوائية بل تقوم على دلائل وثوابت حتى تتحقق.

مفهوم العدالة عند فلاسفة الإغريق

تُعدُّ العدالة (Justice) رابع الفضائل الأربعة المسلم بها في الفلسفة اليونانية (3) التي وردت في كتاب الجمهورية لأفلاطون، وهي: الحكمة والشجاعة والعفاف والعدالة (4)، أما الأصل اللغوي لهذه الكلمة فهو (Jus) الذي بمختلف الكلمات التي اشتقت من هذا الجذر فإنها تتفق جميعها في الإشارة إلى (الحق) (5)، وفيما يأتي عرض سريع لمفهوم العدالة من وجهة نظر فلاسفة هذا العصر:

مفهوم العدالة لدى توما الأكويني وميكافيللي 

استمر التطبيق الإجرائي والعملي للعدالة في الشؤون الحياتية الخاصة والعامة في إثارة اهتمام الفلاسفة والمفكرين في العصور الوسطى في ظل الحكم الإقطاعي، فنشطت النظريات والآراء التي تقترح مبادئ تنطلق منها العدالة في محاولة للإحاطة بالمصلحة العامة للمجتمع مع مراعاة المعايير السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة فيه. 

ومن الأمثلة على ذلك شرح القديس توما الأكويني (Thomas D'Aquin 1225- 1274) للعدالة التراتبية، الذي حرص على مبدأ مراعاة الدولة لمراكز أفرادها عند توزيع الخيرات المشتركة، ولا سيما أنه كان يُؤمن بأنّ المجتمع يتألف من بنية تراتبية، وبذلك فلا يجب توزيع الثروة بالتساوي، بل يرى أنّ العدالة تتحقق إذا حصل كل فرد على النصيب الذي تؤهله له مكانته، أما العدالة بين الأفراد فلخصها في مبدأ أن يرد كل شخص للآخر جزاء ما تلقاه منه، فالعدالة هنا لدى لتوما الأكويني هي عبارة عن مُساواةٍ حسابية، وتساعد في هذا الشأن في تنظيم التبادلات التجارية عند البيع والشراء (7).

أما في عصر النهضة فقد أثار ميكافيللي (Niccolò di Bernardo dei Machiavelli 1527-1469) مسألة العدالة من منظورٍ سياسيٍ باستخدام مصطلحاتٍ تُلمّح إلى العدالة دون ذكرها مباشرةً وحرفيًا، إلا أنّه في الحقيقة، تشكّل مسائل الظلم والعدالة أساس أعماله ولا سيما السياسية منها على الرغم من استخدامه النادر لمصطلح العدالة. وناقش بعض القضايا التي تظهر الحاجة الملحة للعدالة مثل كيفية تحديد ضوابط العمل الحر للأفراد والجماعات في ظل الإقطاع وكيفية تنظيم الخصومات بين الملّاك والعديد من الشؤون المدنية والقضائية بالاستناد إلى معايير يُتفق عليها على أنها عادلة بنظر الجميع، على الرغم من أنه أبدى ميلًا واضحًا في حججه للمنفعة الذاتية معيارًا للحكم بدلًا من العدالة، لكنه حرص في مناقشاته هذه على التأكيد على الوفاء بالوعود والمواثيق أيضًا، ويؤخذ عليه فصله لمبادئ العدالة عن مبادئ الأخلاق (8).

العدالة لدى فلاسفة العصر الحديث والمعاصر:

يوهان غوته (1832-1749 Johann Goethe): يرى غوته أن تحقيق العدالة يتطلب نوعًا من العلاقة التعاقدية بين الأشخاص، فحدد مبدأ العقد الاجتماعي أساسًا لتنفيذ العدالة بين الأفراد، على أن يكون التعاون بين الأفراد وسيلةً لتطبيقه حتى يستفيد الجميع على حد سواء، وذلك ضمن ما يرى غوته بأنّ الجميع يسعى لزيادة مستوى معيشته ورفاهه، فيفترض حدًّا أدنى ليشكل نقطة انطلاقٍ للتنافس على الفائض من الإنتاج، وذلك يضمن احترام كل شخص للحقوق الطبيعية للآخرين، وبالمقابل ينطوي العقد على مبدأ آخر وهو "مبدأ الامتياز النسبي" الذي يتطلب من كل فرد التنازل عن نسبة من أقصى ما يمكن أن يكسبه في حالة الفائض، مع مراعاة حريته المطلقة في تحقيق الرفاهية التي يرغبها ضمن حدود كسبه المشروع ضمن هذا العقد (3).

جون رولز (2002-1921 John Rawls): وضع رولز في نظريته للعدالة الاجتماعية مبدأ الاختلاف، الذي يدعو للأخذ بالتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق أكبر فائدة للمحرومين، ويكون الهدف هنا هو رفع مستوى الأشخاص المحرومين (الفئة ذات الوضع الأسوأ في المجتمع) إلى أعلى مستوى ممكن من حيث الحقوق والامتيازات قبل التفكير في رفع مستوى دخل الفرد في المجتمع ككل، ويرى رولز أنه عندما يرغب الجميع بتطبيق العدالة سيختارون العيش في ظل مبادئ محايدة لا تسري لصالح جهة محددة دون البقية (3).

جون ستيورات ميل (1873-1806 J. S. Mill) وهنري سيدجويك (1900-1838 Henry Sidgwick): بذل كلٌ من ميل وسيدجويك جهودًا كبيرةً لشرح مفهوم العدالة نفعيًّا، ويناقش كلاهما أنّ الاستحقاق هو عنصرٌ أساسيٌ لفهم العدالة. يجادل النفعيون في مسألة العدالة استنادًا إلى مثال الشطيرة والقسمة العادلة، وتُحدّد حصة الشخص من الشطيرة بناء على ما حققه بالفعل من إنتاج في ضوء إنجازه وجهده الظاهر والمباشر، وهنا يبدأ الحديث عن المكافآت، الأمر الذي يدفع الناس لأن يكونوا أكثر إنتاجيةً ونفعًا لأنفسهم وللمجتمع، والأمر نفسه ينطبق على فكرة العقاب (3).

وتذهب بنا وجهة نظر كل من ميل وسيدجويك إلى الوجه الجديد للعدالة والمتمثل بالعدالة الاجتماعية التي جاءت نتيجة للتغيرات التي طرأت على العالم ككل من ثورة علمية وثورة صناعية والثورة الفرنسية، ودُرست وطُوّرت بين فرق الفلاسفة والمفكرين أمثال كارل ماركس وسام سيمون وآدم سميث وهربرت سبنسر ولويس بلان صاحب مقولة من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته" لتتأرجح النظريات والنقاشات ما بين مبدأ الاستحقاق ومبدأ الاحتياج، في حين ينص مبدأ الاستحقاق على أنّ قيمة المنافع التي يحصل عليها الناس يجب أن تساوي قيمة إساهماتهم التي يبذلونها، فامتاز الاحتياج عن الاستحقاق بأنه فكك الترابط بين فعل المساهمة وقيمة المنفعة، وقدم كارل ماركس (Karl Marx 1818-1883) مبدأ الاحتياج بديلًا عن مبدأ الاستحقاق لأنّه كان يؤمن بأنّ على المجتمع أن يقوم على مبادئ الإنسانية التي تتماشى مع مبدأ الاحتياج. ونتيجة للاعتراضات التي لقيها هذان المبدأان لتطبيقهما تمثيلًا نهائيًّا للعدالة الاجتماعية برز الوعي بأنه من الخطأ تطبيق مبدأ واحد من مبادئ العدالة الاجتماعية والاكتفاء به في كل الحالات والمجالات، وينبغي الاستمرار في ابتكار وتطوير أدوات العدالة الاجتماعية أيضًا حتى تواجه تحديات المجتمع المتغيرة (9)، وفي النهاية يمكننا القول إنه ومع تطور وتعقد مظاهر الحضارة البشرية على كافة المستويات وتكثف الأنشطة الإنسانية تصبح الحاجة إلى العدالة أكثر حساسية مما يستدعي المزيد من النقاشات التي تجعل من تطبيقها مناسبًا للعصر ومتغيراته على أن تبقى قيمة مطلقة مترامية الأطراف ينشدها الجميع لكنهم يختلفون في آلية تطبيقها.

المصادر:

1. الأمين، محمود. (2007). شريعة حمورابي. الطبعة الأولى. دار الوراق للنشر. ص9

2. مانسيني، أنّا. (2009). ماعت - فلسفة العدالة في مصر القديمة. ترجمة: عواد، محمد رفعت وزكي، جيهان. سلسلة مصريات تاريخ فن حضارة(6).الطبعة الأولى. الهيئة المصرية العامة للكتاب. ص9-10

3. Miller D. Justice [Internet]. Stanford Encyclopedia of Philosophy. Stanford University; 2017. Available from: هنا

4. أفلاطون. (2017). جمهورية أفلاطون. ترجمة: خباز، حنا. الطبعة الأولى .مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. القاهرة. 124,140.

5. لالاند، أندريه. (2001). موسوعة لالاند الفلسفية. ترجمة: خليل وعويدات، خليل وأحمد. الطبعة الثانية. منشورات عبيدات. بيروت. 717.

6. أرسطوطاليس. (1924). علم الأخلاق إلى نيقوماخوس. ترجمة: السيد، أحمد. الجزء الأول. مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة. 67.

7. بدوي، عبد الرحمن. (1984). موسوعة الفلسفة - الجزء الثاني. الطبعة الأولى. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. 69-70.

8. Quaglioni, Diego.(2014). Machiavelli, the Prince an the Idea of Justice. italian culture, Vol. xxxii No. 2, 110–21, p111-112

9. جونستون، ديفيد. (2012). مختصر تاريخ العدالة. ترجمة: ناصر، مصطفى. سلسلة عالم المعرفة. ص211-219-224-234.