كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (عندما بكى نيتشه)

قبل مناقشة رواية (عندما بكى نيتشه) للدكتور أرفين يالوم لا بد أن نذكر سؤالين تلعب الرواية على أوتارها: متى يكون الحب حالةً مرضيةً وهوسًا عميقًا وظلالًا؟

السُّؤال الثاني ذكره نيتشه في كتابه (هذا هو الإنسان): ما مقدار الحقيقة التي يمكن أن نتحمّل؟

تتألّف الرواية من شخصيتَين رئيسيتَين وهما شخصيتان اقتبسهما المؤلّف د.إيرفين يالوم (Irvin D. Yalom) من شخصيات حقيقية أدّت دورًا مهمًّا في الفلسفة وعلم النفس، وكما عادة إيرفين يالوم يقيّم عمله على طريقة السرد الحواري، فما مناقشة هذا العمل إلّا مناقشة لما دار بين هذين الشخصيتين من ملحمة فلسفية وطبية تشيّد أعمدتها على معنى الحقيقة والهوس والوجود والدين والإله والموت والغضب والعقلانية والحب والكره والشهوة والأنانية، وغيرها من مجادلات النفس البشرية.

دكتور بريوير، وهو مقتَبس من عالم النفس جوزيف بريوير (Josef Breuer 1873-1842): شخصية حادّة الذكاء تتقن طرح الأسئلة، على وجه الخصوص تلك الأسئلة التي تنبش إجابات خطيرة ومفصلية، تربطه علاقة صداقة مع تلميذه سيغموند فرويد الذي اقترح طريقة علاجٍ نفسيٍّ يطلق عليها اسم: "تنظيف المدخنة". قصد فرويد بـ "تنظيف" البوح بمكنونات النفس التي تمثّل الـ "المدخنة". فكل إنسان يملك -مجازيًّا- مدخنة في رأسه، عقل يلم مآرب نفسه ومخاوفها وعَتمتها في أعمق نقطة فيه، ولأن كل مدخنة لا بد أن تنظّف فلا بد أن يبوح كل مرء عن مكنونات نفسه التي تنهكه ليعالج نفسه، أو على الأقل ليقبل العلاج بعدما يعرض مكنونات النفس في العلن فيستطيع مواجهتها. وأدّت هذه الكلمة دورًا محوريًّا في لقاءات دكتور بروير والشخصية الثانية وهي الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche 1900-1844)، شخصيات الرواية الأساسية.

"إني أُبقي نفسي الحقيقية مخبأة لأنه توجد أشياء كثيرة كثيرة في داخلي، ثم يزداد كراهية من نفسي لأنني انقطعت عن أناس آخرين. لو تمكّنت من كسر هذه الحلقة المفزعة، لتمكنت من البوح عن نفسي للآخرين"

في المقابل هناك شخصيتان -اقتبست عن شخصيات تاريخية أيضًا- لا يمكن أن تكونا ثانويتَين تمامًا ولا أساسيتَين تمامًا، إنهما شغف الرواية وخطرها في آن، امرأتان تؤديان دور "الهروب من خطر الأمان". يعد هذا الهروب في الرواية هو سمة ترافق الإنسان الذي يملك نزعة للمنافسة والحرب -نيتشه والدكتور بريوير- فهؤلاء المقاتلون من أجل إيجاد قيمة حياتهم يخافون من الأمان، إنه خطر في خلاصة فلسفتهم، بل يجعلهم راكدون أكثر ممّا يجب. إن أولى هؤلاء النساء هي لو سالومي، الامرأة التي دفعت نيتشه لإعادة ترتيب أفكاره تجاه الحب والنساء والوحدة والخيانة بعدما، وأخيرًا الهوس فيها. لا يختلف الأمر كثيرًا مع المرأة الثانية، وهي بيرثيا مريضة الدكتور بريوير التي اتهمته بأنها حامل منه مما أجبره، حفاظًا على حياته الزوجية ومكانته المهنية، لطردها من عيادته والابتعاد عنها؛ لا تختلف كثيرًا حالة نيتشه عن بروير، بل إنهما في نهاية الأمر مرآة لبعضهما ترجمت بلغة مختلفة وسرد مختلف.

تبدأ الرواية مع رسالة لو سالومي للدكتور بريوير:

"دكتور بريوير، يجب أن أراك لمناقشة مسألة بالغة الأهمية وعاجلة. إن مستقبل الفلسفة الألمانية على المحك. أرجو أن ألتقي بك في الساعة التاسعة من صباح الغد في مقهى سورينتو."

لو سالومي امرأة روسية، شخصية ثائرة على قيودها قبل ثورتها على قيود أخرى تحيط بها، لامعة الذكاء وقادر على التأثير ولفت الأنظار، وهذا تحديدًا ما سهّل إبرام صفقة سرية مع الدكتور بريوير ليعالج صديقها الفيلسوف فريدريك نيتشه عن طريق ترتيب الأمور ليصل نيتشه إلى عيادة الدكتور. تصف لو سالومي نيتشه أنه شخصية صعبة، لا تقبل مساعدة أحد، يحب ألمه، بل يراه فضيلة! شخصية استثنائية وغاضبة، وما يثير قلقها رسائله الأخيرة عن الانتحار..

تشرَع الرواية إلى بؤرة فلسفة نيتشه عن طريق مجادلته مع طبيبه الجديد، وتقسم إلى قسمين: يتمحور القسم الأول في محاولة إقناع بريوير مريضه بأنه يجب أن يعالج، كان ذلك يشكّل تحديًا، وما زاد حدّة هذا الجدل هو رفض نيتشه لتعريف الفضيلة كما يقدّمها بروير، إذ يقول:

"لكن يوجد خلاف هام بيننا، فأنا لا ادّعي أنّني أتفلسف من أجلك، بينما أنت، يا دكتور، تواصل الادّعاء بأن حافزك هو خدمتي، لتخفيف ألمي. ليس لهذه الادّعاءات علاقة بالحافز الإنساني. إنها جزء من عقلية العبد التي صمّمتها بدهاء الدّعاية الكهنوتية. شرِّح دوافعك بشكل أعمق! ستجد أن لا أحد يعمل من أجل الآخرين، إن جميع التصرفات ذاتية التوجه، وجميع الخدمات هي لخدمة المصالح الذاتية، وكل الحب هو حب للذات"

في حين يتحدث القسم الثاني عن لعبة قلب الأدوار؛ إذ يصبح نيتشه يعالج الدكتور بريوير من يأسه وهوسه بـ "بيرثيا" وقيوده الملتفة حول رقبته من مسؤوليات تجاه زوجته وأولاده..

* رأي المعد في العمل:

لا يمكن لمن قرأ رواية أخرى لإيرفين يالوم ألّا يقارنها مع هذه الرواية، والعكس صحيح، لذلك لم ينبت في رأسي سوى فكرتين في بداية قراءة هذا العمل قبل أن تخطفني الشخصيات إلى عالمها، الأولى أن يالوم لم يحدث المتعة الفلسفية والسردية نفسها في روايته (علاج شوبنهاور هنا) بل كان أكثر جمودًا، ربما يعود ذلك لأن شوبنهاور بصفته شخصية لم يكن موجودًا بل كانت فلسفته التي تنطق بلسان أحد الشخصيات تؤدي دوره. والثانية كم من المثير التهام فلسفة وفكر مفكرين وفلاسفة تركوا بصمتهم في التاريخ بنحو أدبيٍّ سرديّ مُحكَم، هذا حد ذاته ما أضاف لأعمال يالوم ميزة تزيد تفاعل القارئ -خاصةً قرّاء الفلسفة- مع الأحداث، فما أن نقرأ اسم سيغموند فرويد حتى نُجذب أكثر للعمل، وما أن نلمس نقل بعض التفاصيل العامة عن حياة نيتشه وسالومي -على فرض أن القارئ يعرف شيئًا عنها مسبقًا- نجذب للعمل أكثر، وما أن ينهي المؤلّف يالوم عمله بملاحظات عن تاريخ هذه الشخصيات الحقيقية وكيف بحث فيها لينجز روايته لنلمس جمالية بنية ومعنى هذه الرواية.

معلومات الكتاب: