العمارة والتشييد > التصميم المعماري

الإضاءة الطبيعية في المستشفيات.. ضرورةٌ أم رفاهية؟

يقدِّم التعرض الكافي والملائم للضَّوء الطبيعي تأثيرًا إيجابيًا في صحة الإنسان ورفاهية المرضى والطاقم الطبي في بيئة المستشفى، إذ أن إنشاء بيئةٍ علاجيةٍ ذات جوانبَ تصميميةٍ مناسبةٍ (ومن ضمنها ضَوء النهار) تحقق تصميمًا مُستدامًا، خاصةً أن عملية تصميم مبنى المستشفى تُعدُّ مهمةً تصميميةً معقدةً وظيفيًا (1). وتُعدُّ فكرة استخدام الضَّوء الطبيعي رغبةً بشريةً فطريةً في الارتباط بالطبيعة، إذ يشير مصطلح (البيوفيليا - BIOPHILIA) في العَمارة إلى محاكاة ظروف البيئة الطبيعية، ويسعى التصميم (البيوفيلي) إلى إنشاء مبانٍ مُستوحاةٍ من الطبيعة والحفاظ على الارتباط بها في البيئات التي نعيش فيها ونعمل كل يوم، ويُعدُّ ضَوء النهار أحد أهم أنماط هذه العَمارة. تساهم البيئات الداخلية جيدةُ التصميم في جعل الناس يشعرون بالراحة والنشاط، ويبدأ ذلك من هيكل المبنى وشكله، ويكتمل باللون والضَّوء والفرش والتفاصيل الأخرى. يُعدُّ الضَّوء من أهم العناصر التي تؤثر في البيئة الداخلية؛ وبالتالي يمكن للمهندسين المعماريين دراسة تصاميمهم للبيئات الداخلية من خلال فهم أهمية الضَّوء (2). 

الإضاءة الطبيعية في ممرات مستشفى (São Bernardo do Campo) في البرازيل.

لقراءة مقالنا السابق عن (البيوفيليا) في العمارة؛ يمكن الضغط هنا

تكمن صعوبة تصميم أبنية الرعاية الصحية في تحقيق جانبين مهمين: أحدهما العلاج الجسدي؛ والآخر تعزيز الحالة النفسية الإيجابية، وهنا يأتي دور التصميم المعماري لخلق بيئةٍ داعمةٍ في التصميم. اعتُمِدَ مصطلح (عَمارة الشفاء - Healing Architecture) لوصف العملية المعمارية التي تهدف إلى تعزيز الصحة الجسدية والراحة النفسية؛ وبالتالي زيادة رضا المرضى، والمساهمة في التعافي السريع، وتقصير مدة الإقامة، وتقليل التوتر. صُمِّمَت عَمارة الشفاء من خلال التركيز على النواحي التصميمية الفيزيائية (مثل ضَوء النهاء- وتصميم الفتحات- وشروط الراحة الحرارية) بطريقةٍ تحقق التوازن بين مبادئ الاستدامة المختلفة دون التفريط بجودة الأداء الوظيفي للمستشفى (1). يشير الأطباء والممرضون إلى أهمية دور ضَوء النهار في غرف المرضى في تسهيل عمل الطاقم الطبي، وتمكينهم من التعرُّف على التغيُّرات في لون جلد المريض وتفسيرها (3). فالمرضى هم الذين يقضون أكثر من ساعةٍ عادةً في بيئةٍ مُغلقَةٍ دون أن تُتَاح لهم فرصة الاستمتاع بالضَّوء الطبيعي. وكلما كان المستشفى أكثر قتامة؛ زاد وقت بقاء المرضى، مما يؤدي إلى الاكتئاب والقلق. إذ تعتمد معظم فراغات الرعاية الصحية على الضَّوء الاصطناعي الذي يسبب أضرارًا خطيرةً لشبكية العين (2). 

وتشير الدراسات إلى أهمية التحكم في الضوضاء، وجودة الهواء، والراحة الحرارية، والإضاءة، والتواصل، واللون، والملمس، والخصوصية، ورؤية الطبيعة من بين العوامل المادية التي يجب مراعاتها بدقةٍ في تصميم المستشفى. توفُّر هذه العوامل ما يساعد في تقليل الوقت الذي يقضيه المرضى في المستشفى، ويقلِّل حاجتهم إلى أدوية المسكِّنات. أكثر المصطلحات التي يستخدمها المرضى في نقْد المستشفى من ناحية الإضاءة هي: (مربك، وممراتٌ طويلة، وعدم وجود نوافذ، ووجود وهْجٍ مع قلة الضَّوء الطبيعي، والشعور بالعزلة) (1). إذ تسبِّب قلَّة التعرض لأشعة الشمس العديدَ من الأمراض والمتلازمات مثل: (نقص فيتامين د، والسرطان، وأمراض العظام، والتوُّتر، والاكتئاب، (والاضطراب العاطفي الموسمي - SAD)، والخلل بإيقاع الساعة البيولوجية)، ومع ذلك تفتقر وحدات الممرِّضات في معظم المستشفيات إلى التعرض الكافي للإضاءة الطبيعية. تُعدُّ المستشفيات أيضًا بيئة عملٍ صعبةٍ بالنسبة لطاقمها، ويمكن أن تضعهم تحت ضغطٍ شديد. لذلك؛ من المهم تأمين بيئات عملٍ سهلة الإدارة بالنسبة إلى التخطيط المكاني والراحة البصرية المناسبة (3).

تلعب البيئة المُضاءَة بضَوء الشمس دورًا مهمًا وجزءًا لا يتجزأ من بيئة الاستشفاء في المستشفى. لذلك؛ فإن ضَوء النهار مطلوبٌ في معظم الأقسام التشخيصية وأقسام الإقامة في مباني المستشفيات، وهو أحد الجوانب المادية المهمة التي يجب مراعاتها في بيئة الاستشفاء؛ إذ يُشَار إلى أن الضَّوء بوصفه أهم المُدخَلات البيئية في التحكم في وظائف الجسم بعد الطعام، وله تأثيرٌ كبيرٌ في إيقاع الساعة البيولوجية لدى الإنسان، ويؤثِّر في تعافي المرضى. والضَّوء في البيئات الداخلية يؤثِّر في الاستجابات الفسيولوجية، والمزاج، والاحتياجات البصرية الأساسية (1)، إضافةً إلى الاستجابات العاطفية والسلوكية للمرضى؛ إذ توضِّح بعض الدراسات التأثيرَ الكبير لضَوء النهار في التواصل الاجتماعي والمشاعر والسلوك المدرك للمريض (3). لذلك يجب ضمان التحكم في الوهْج، وخلوِّ الإضاءة من الوميض، واستحضار الضَّوء وتوجيهه إلى مكان إجراء المُهمَّات المرئية، وتجسيد اللون ودرجة الحرارة، وتحقيق التوازن بين الإضاءة الطبيعية والصناعية عند تصميم بيئةٍ علاجيةٍ مُضاءةٍ (1).

الإضاءة الطبيعية في غرف إقامة المرضى في مستشفى (São Bernardo do Campo) البرازيل.

أظهرت الأبحاث أن المستشفيات تُعدُّ أماكن مرهقةً بالنسبة للمرضى لثلاثة أنواعٍ من أسباب: 

أسبابٌ نفسية: إذ ينظر المرضى إلى المستشفى بأنها آخر مكانٍ مُحتمَلٍ زيارتُه في حياتهم قبل الموت، وهو أيضًا المكان الذي يُعزَلون فيه اجتماعيًا. 

الخوف من الألم الناتج عن إجراءات العلاج ورؤية الأجهزة الطبية محيطةً بهم دائمًا. 

يُنظَر إلى بيئة المستشفى نفسها على أنها بيئةٌ غير طبيعيةٍ أو معتادةٍ وغريبةٍ بسبب أنشطتها الخاصة والروائح والضوضاء، وخاصةً تلك الناتجة عن آلام المرضى الآخرين (3).

الإضاءة الطبيعية في أماكن انتظار المرضى في مستشفى (Shenzhen Bao’an District Maternal and Child Health Hospital) الصين.

يوجد العديد من العوامل التي تؤثر في تصميم ضَوء النهار في المستشفيات تشمل: 

أولًا- اتجاه المبنى: يؤثر توجيه المبنى في تصميم عناصر البناء والتفاصيل من فتحات، وأجهزة تظليل، إضافةً الى دراسة الإطلالات، والتواصل مع البيئة الخارجية التي تحسِّن تجربة المريض، إذ وجدت دراسةٌ أنَّ وجود إطلالةٍ على مناظرَ طبيعيةٍ يقلِّل من مدة النقاهة في المستشفى بعد العملية بنسبة 8%، ويمكن للإضاءة الطبيعية الجيدة أن تعزِّز هرمون (السيروتونين - Serotonin) لدى المريض مما يقلِّل من إدراك الألم بنسبة 22% (2).

ثانيًا- تصميم الفتحات: تحقق النوافذ مُهمَّتين: الأولى وصول ضَوء النهار، والثانية الرؤية، ولكلتيهما فوائد صحيةٌ للمرضى مثل: تجنُّب اضطرابات النوم والهلوسة والأوهام لأنها توفِّر رابطًا حيويًا مع العالم الخارجي (1).

ثالثًا- رؤية المنظر الخارجي: تزداد أهمية قدرة المرضى على رؤية المناظر الخارجية (خاصةً الإيجابية منها مثل المساحات الخضراء) عندما تكون أجنحتهم في طوابقَ أعلى حيث يصبح منظر المنطقة المحيطة أكثر إمتاعًا.

رابعًا- الراحة البصرية: ويُراعَى فيها تحقيق الوصول المريح للإطلالة الخارجية مع تجنُّب الوهْج المباشر عبر استخدام الستائر أو عدم مواجهة المرضى للنوافذ بطريقةٍ مباشرة.

خامسًا- الإضاءة الصناعية: لُوحِظ عدم تفضيل المرضى لتشغيل الإضاءة الصناعية عند عدم الحاجة إليها في أثناء النهار. وتجب مراعاة عدم وضع تركيز الإضاءة الصناعية فوق أسرَّة المرضى، وإنما في محور الغرفة لتفادي تعرُّض المرضى للوهْج في أثناء الاستلقاء في السرير.

سادسًا- اللون: تجب مراعاة استخدام ألوانٍ داكنةٍ لطلاء الجدران المحيطة، إذ قد يؤثِّر ذلك في إدراك لون بشرة المرضى من قِبَل الأطباء مما يؤثر في المُهمة البصرية في أثناء الفحص الطبي (1).

الإضاءة الطبيعية في محطات التمريض في مستشفى (Hefei BOE Hospital / HKS) الصين.

وفي النهاية؛ نجد أهمية ضَوء النهار الجيد في تصميم المستشفى لتحقيق هدفين مهمين هما: تحسين ظروف عمل كادر المستشفى الطبي، وتحسين بيئة الشفاء للمريض؛ وهذا دليلٌ على التشابك بين التصميم المعماري، والطبيعة المحيطة، واعتماد التصميم الناجح على مراعاة العوامل الاجتماعية والبيئية والثقافية لخلق بيئةٍ فعالةٍ تزيد من نسبة شفاء المرضى وتعافيهم وتؤكد دور المهندس المعماري في إنجاح هذه البيئة. فما أكثر العوامل المؤثرة في راحة المريض وشفائه تصميميًا من ناحية الضَّوء الطبيعي برأيك؟

المصادر:

1. ARIPIN S. ‘HEALING ARCHITECTURE’: DAYLIGHT IN HOSPITAL DESIGN. Conference on Sustainable Building South East Asia. Kuala Lumpur: Universiti Teknologi Malaysia; 2007. p. 173-181. Available from: هنا

2. Husein H, Salim S. IMPACTS OF DAYLIGHT ON IMPROVING HEALING QUALITY IN PATIENT ROOMS: CASE OF SHORSH HOSPITAL IN SULAIMANI CITY. International Transaction Journal of Engineering, Management, & Applied Sciences & Technologies [Internet]. 2020 [cited 28 November 2020];11(11):11A11N: 1-11. Available from: هنا

3. Alzubaidi S, Roaf S, Banfill P, Talib R, Al-Ansari A. Survey of Hospitals Lighting: Daylight and Staff Preferences. International Journal of Energy Engineering [Internet]. 2013 [cited 28 November 2020];3(6):287-293. Available from: هنا