كتاب > روايات ومقالات

أمام سؤال الكتاب: الذكاء أم ثروة طائلة؟

"الذكاء حصان جامح، يجب أن نجيد ترويضه وإطعامه الشوفان المناسب وتنظيفه وأحيانًا استخدام المهماز." نيتشه

يعرض الكاتب الفرنسي (مارتن باج- Martin Page) في رواية (كيف أصبحت غبيًّا) جانبًا من حياة الشاب (أنطوان) الذي يعاني من مشكلة التفكير الزائد، ويعاني -أيضًا- درجةً عالية من الذكاء تحوْل دون أن يحيا حياةً طبيعية كبقية أقرانه ونماذج مجتمعه؛ إذ إنَّ أنطوان شاب في الخامسة والعشرين من عمره يحمل إجازةً جامعية واهتمامات علمية مختلفة، ويقرأ كثيرًا من الكتب التي تفتح آفاق عقله ومعارفه، فتجعل من مشكلته -التفكير الزائد- تتفاقم أكثر يومًا بعد يوم عندما يدخل في دوامات ومتاهات لا مخرج لها تجعله منفصلًا عن واقعه الغريب، وغير قادر على التأقلم والاندماج معه.

"ليس التفكير عملية طبيعية، إنه يجرح كقطع من الزجاج والأسلاك الشائكة السابحة في الهواء."

 يسعى أنطوان إلى أن يجعل عقله يتوقف بطريقة ما، فيقرر أن يصبح سكِّيرًا ولكنَّه يفشل، ويتحول إلى التفكير بالانتحار علَّه ينهي حياته التي استحالت جحيمًا حيث لا فائدة من وجوده، فلا مشكلة بانتقاله إلى العدم، ولكنَّه يتراجع عن نيَّته، ويقرر بطريقة ما أن يصبح غبيًّا فلربما يستطيع الاندماج مع المجتمع، ويتوقف عن التفكير في كل ذرة هواء وفي أشعة الشمس وحبات المطر.

ومع التحوُّل الذي يؤول إليه يصبح وكأنَّه يعيش حياةَ كائن آخر، فيغدو إنسانًا مرئيًّا بعد أن كان مجرد خيال لا يشعر أحد بوجوده، ويشعر في الوقت ذاته وكأنَّه ممثل على خشبة المسرح يؤدي دورًا في مسرحية ما، ويعيش حالة استغباء مستديمة!

فهو بتخلِّيه عن التفكير وإعمال عقله كما اعتاد، أصبح يعيش ضمن حلقة مفرغة لا معنى لها، ولكنَّها ترضي غرور التطور التكنولوجي الذي يعوم على مأساة بقية البشر، وهو ما كان يرفضه سابقًا، ولكنَّه اليوم غبي ولا يفكر.

هذا الحال الذي يصفه الكاتب بالانسلاخ، فأنطوان قد انسلخ فعليًّا عن واقعه الذي اعتاد عليه، فهل يتحرَّر من الذكاء والتفكير ليكون جزءًا من هذا المجتمع؟ أم أنَّ الذكاء يفرض نفسه والطبع يغلب التطبُّع؟

تبحر بنا الرواية في هذين السؤالين بسردٍ مثير، إضافةً إلى ذلك، يتناول الكاتب -بأسلوب كوميدي وفلسفي مغرق بالسخرية- المشكلات التي ظهرت عقب ظهور الرأسمالية التي كان لها تأثيرٌ عالمي يختلف باختلاف موقع البلدان، وهو يوضح بأمثلة عديدة كيف أنَّ شعوبًا بأكملها في الدول المعدمة تحوَّلوا إلى عبيد جراء عملهم بأجور زهيدة وظروف صعبة لشركات الرأسماليين.

أما في البلدان المُتقدمة التي اعتمدت النظام الاقتصادي الرأسمالي ظهرت مشكلات اجتماعية عندما انقسم المجتمع إلى طبقتين بفجوة واسعة بينهما، فهو يظهر عن طريق سرده لجانب من حياة الشاب أنطوان رؤيَته لمن يتمتَّع بمهارات ذهنية عالية وثقافة واسعة ولكنَّه يعيش على الهامش؛ كونه إنسانًا حقيقيًّا يشعر بالآخرين ومعاناتهم، فهو يعاني مثلهم ويفكر بأحوالهم، ولكنَّه يصل إلى ذلك الحد الذي يفقد إحساسه بأهميته في مجتمع يقتات على المظاهر البراقة وإهمال الجوهر الإنساني.

"الحياة حيوان يتغذى على صكوك وبطاقات ائتمان."

 وفي الكفة الأخرى، يصف الكاتب الطبقة الأخرى من المجتمع "بالغباء" حسب قوله، فهم مجموعة من الناس الذين يمارسون نمط الحياة ذاته والاهتمامات نفسها من مواكبة أهم ما تصل إليه التكنولوجيا والأدوات الإلكترونية، وأحدث السيارات، وصيحات الموضة من ماركات الملابس، والأرصدة البنكية، وليالي السهر وممارسة الجنس الفاحش.

"إنه لأمر يحزنني جدًّا أن أرى أننا لسنا أحرارًا وأن كل فكر وكل فعل حر يتم لقاء جرح لا يندمل."

وعلى الرغم من ذلك كله، يصفهم الكاتب بأنَّهم مسلوبو الحرية؛ فهم يتراكضون دون أدنى درجة من حرية التفكير ليكونوا نسخًا كربونية عن بعضهم، ولإلغاء مزايا التفرد فيما بينهم، ونتيجةً لذلك يعوم المجتمع الرأسمالي بأكمله في مجاعات وويلات العالم الثالث بحسب تعبير الكاتب.

يتميز هذا العمل الروائي بنمط سلس دون الحاجة إلى طرح كثيرٍ من الأمثلة، أو استخدام تشابيه معقدة، بل على العكس؛ فالكاتب يستخدم لغةً سهلة وواضحة بعيدًا عن الإسهاب، وقد كانت الترجمة بالآلية نفسها. وممَّا يجدر الإشارة إليه أسلوبُ التكثيف الذي استخدمه الكاتب، فهي رواية قصيرة ولكنَّها غنية بكمٍّ كبير من الأفكار التي تطرَّق إليها.

معلومات الكتاب