كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب: (جينالوجيا الدين)

يقدِّم المفكِّر الإسلامي (طلال محمد أسد) أفكارًا متعددة ضمن مجموعة مقالات جمعها في كتابه جينالوجيا الدين.

فهو يناقش تاريخ نشأة الدين بدايةً، ثمَّ يتناول بعض الأفكار الدينية في الأديرة في القرون الوسطى، والتطورات التي نالتها ما بعد عصر التنوير في أوروبا، ثمَّ ينتقل إلى تقديم دراسة أنثروبولوجية للمجتمعات غير الأوروبية ونظرة تلك الشعوب إلى الغرب، ويتعمَّق في النهاية في دراسة شاملة للمجتمع البريطاني إثر حادثة أثارت حفيظةَ بعض الليبراليين والمتشددين الدينيين.

● بناء الدين موضوعًا أنثروبولوجيًّا

وعن طريق دراسات عدة أُعدَّت لإيجاد تعريف واضح للدين كان من المهم في البداية تحديد فكرة مهمة ألا وهي التأكيد على أنَّ جوهر الدين لم يختلف ما بين القرون الوسطى وأيامنا هذه، وبناءً على هذا الجوهر يقول طلال أسد: "إن الإصرار على أن للدين جوهراً مستقلاً يدعونا لتعريف الدين بأنه ظاهرة لا تخضع لتقلُّبات التاريخ وللخصوصية الثقافية."

ومع تطور الدراسات والمفاهيم في أثناء السعي إلى التعمُّق أكثر في فهم ماهية الدين يُطلعنا الكاتب على مُحاولات حثيثة في القرن السابع عشر بعد أن تمزَّقت أركان الكنيسة الرومانية ومزَّقت البلدان الأوروبية معها نتيجة حروب طويلة، فكان من المهم إيجاد تعريف أكثر شمولية للدين كي يرأب الصدع الذي أصاب المؤمنين، فخَلُص أسد إلى نتيجة مُستشهدًا بقول كانط "ظهرت من غير شك أشكالٌ تاريخيةٌ مُختلفة للتديُّن، ولكن هذه الأشكال لا علاقة لها بالدين نفسه بل بتغيُّر وسائل الدعوة للدين. وقد يكون عدد الكتب الدينية كبيرًا، ولكن لا يمكن أن يُوجد سوى دين واحد يصحُّ لكل البشر في كل الأوقات."

● الألم والحقيقة.. في الطُّقوس المسيحية في العصور الوسطى

يبحث الكاتب في هذا الفصل في تطور الآلية القضائية في كيفية مُعاقبة المُتَّهم وإجباره على الاعتراف بالجُرم الذي ارتكبه، ففي بدايات القرون الوسطى كانت الطريقة المُتَّبعة أن يُترك الأمر للمُتَّهم؛ إذ يحلف اليمين، ويجب أن يدعم يمينه بعددٍ يُحدَّد من الأشخاص الذين يقبلون بأداء اليمين معه، وتُعدُّ هذه الطريقة حقًّا للمُتَّهم؛ ولكن، كان يُحال المُتَّهم في بعض الأحيان للمِحنة بحيث يُترك الحكم لله؛ كأن تُحرق يد المُتَّهم ويترك عدة أيام فإن كان بريئًا فستشفى بالتأكيد، وإن كان مُذنبًا فقد استحق عقابه.

ولكن، ما تغيَّر بحلول القرن الثاني عشر هو أنَّ دراسة القانون الروماني بيَّنت نظامًا مُفصَّلًا لأحكام بشرية بحتة سُرعان ما اعتمدتها الكنيسة ووحدت التعليمات والأنظمة فيما بينها، وكانت النتيجة مُرضية بما يخدم تحقيق العدالة.

● الضبط وإذلال الذات.. في الرهبنة المسيحية في العصور الوسطى

يُشير الكاتب إلى أنَّ قوانين القدِّيس بندكتس كانت الأساس الذي ارتكزت عليه الأديرة؛ إذ انتظمت حياة الرُّهبان عن طريق الاعتياد على أداء الطُّقوس وكانت تأدية الطُّقوس تُعدُّ إحدى وسائل "المهنة الروحية" للراهب التي يرتقي إليها تدريجيًّا.

عندما كانت حياة الرهبان في الأديرة تتمحور حول أداء تلك الطُّقوس الدينية أداءً روتينيًّا، وذلك باتباع مثال الرُّسل الذين أرادوا للمتدينين أن يتبعوهم عن طريق محاكاة أسلوب الحياة الذي اتَّبعه المسيح، فنلاحظ أنَّ تعاليم السماء كانت المصدر لتلك الممارسات الجسمانية والروحانية، وكانت مهمَّة رئيس الدير أن يُمارس دور الضابط لتحقيق تلك الفضائل.

وأما تعريف الخطيئة في العصور الوسطى فهو الرغبة الجامحة التي تتملَّك الجسد لتحقيق الرغبات الدنيوية، وبناءً على هذا الأساس بُنيَ نظام الرَّهبنة؛ منعًا من الوقوع في الخطايا.

ومن يقع في الخطيئة عليه أن يؤدي الكفَّارة التي أُوضِحت تعليماتها في نظام الأديرة، ولتفادي وقوع النفس في الخطيئة وُجِد إذلال الذات عن طريق تعاليم مُحددة، تُؤدى بإشراف رئيس الدير.

● مفهوم الترجمة الثقافية.. في الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية

يعرض الكاتب في مستهل هذا الفصل الجدل القائم بين عدة مترجمين وكُتَّاب أوروبيين حول فكرة تفسير الخطابات المُترجمة من لغات غير أوروبية، ويأتي أيضًا على موضوع المعاني المُتعددة التي طالت الكتاب المُقدس حين أصبح كل مُفكِّر يتفرَّد بتفسيره الخاص.

ويبيُّن الكاتب المزاجية في ترجمة بعض المترجمين في تحويرهم النصوص عند ترجمتها من لغات غير أوروبية بما يتناسب مع لغاتهم القومية.

ويشير أسد إلى تأثير عملية الترجمة في تطوير اللغات وخاصة لغات دول العالم الثالث، بما أنَّ الترجمة تكون من اللغات الأوروبية إلى تلك اللغات، ومنها اللغة العربية التي -بحسب تعبير الكاتب- قد نما حجمها أضعافًا؛ نتيجةً للكم الكبير من المؤلفات التي تُرجِمت من اللغات الأوروبية إلى اللغة العربية. وهي تمر بتغير -أي اللغة العربية- يتجاوز في تأثيره أي تغير قد مرَّ في اللغات الأوروبية.

● التعدُّدية الثقافية والهوية البريطانية.. في إثر قضية سلمان رشدي

عندما صدرت رواية الكاتب البريطاني سلمان رُشدي (الآيات الشيطانية) شهدت عدة مناطق في بريطانيا مُظاهرات غاضبة طالبت بمنع نشر الكتاب وطالت تهديدات للكاتب بالقتل؛ ممَّا اضطر رُشدي لطلب الحماية من الشرطة البريطانية.

ويُبيِّن الكاتب هذه الحادثة وكأنَّها وقعت لصالح الفريقين اليمينيين واليساريين، فهي أظهرت المُهاجرين المُسلمين بوجه لا يقبل بالقوانين الليبرالية في بريطانيا، ويرفضون التعددية الثقافية التي سعت عدة جهات حكومية إلى العمل على بلورتها في المجتمع البريطاني.

ولكن، أظهرت تلك الأحداث من جهة أخرى الجانبَ العنصري الواضح في المجتمع البريطاني، وهي ليست عنصرية دينية كما يُبيِّن أسد، وإنَّما عنصرية عرقية بحتة؛ فكلمة (مُهاجر) تدل في بريطانيا على المُهاجرين الملونين حصرًا دونًا عن البيض وحتى أبناء المُهاجرين الذين وُلِدوا على الأراضي البريطانية.

يُناقش الكاتب مضمون رواية رُشدي من منطق عدة مُفكِّرين، منهم من وجدها مُذهلة جدًّا، ومنهم من أعرب عن رفضه لمضمونها.

ولكنَّ أسد يوضِّح بتأنٍ بأنَّ الأسلوب واللغة التي كُتبت بها الرواية هو الأسلوب ذاته الذي اعتمده الأوروبيون في عصر التنوير، وهو الأسلوب الذي وصل فيه الأدب إلى تلك المكانة الروحية ليحل محل الدين الذي تخلت عنه شريحة واسعة من المجتمع الأوروبي.

ومن الجدير بالذكر أنَّنا لم نتوسع في هذا المقال لعرض المواضيع التي يحتويها الكتاب كافةً، بل اكتفينا بالتركيز على بعض النقاط المهمة من الكتاب، ونتمنى لكم قراءة ممتعة.

معلومات الكتاب