الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة الغربية

ما بعد البنيوية، Poststructuralism

فلسفة «ما بعد البنيوية - Poststructuralism» هي نظريةٌ أو مجموعةٌ من النظريات التي تُعنَى بالعلاقة بين البشر والعالم وعملية توليد المعاني. فمن ناحية؛ تؤكد «ما بعد البنيوية» على أن الوعي ليس منشأ اللغة التي نتحدثها أو الصور التي نميزها، بل إنهما نتاجٌ للمعاني التي نتعلمها أو ننتجها، ومن ناحيةٍ أخرى؛ فالتواصل متغيرٌ دائمًا سواءً تدخَّلنا أم لم نتدخل (1)، وتُعدُّ أيضًا نوعًا من الانخراط في المجالات الاجتماعية والسياسية من خلال انتقاد الأنماط الاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة، إضافةً إلى انشغالٍ أخلاقيٍّ بمطلب العدالة، ويُعزَى ذلك إلى نشأة معظم فلاسفة هذه المدرسة في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية مُحاطين بأدلةٍ بيِّنةٍ لكوارث النازية والستالينية والاستعمار، إضافةً إلى تعبير هؤلاء الفلاسفة عن مواقفهم من مواقعَ هامشية؛ إذ كان "ميشيل فوكو - Michel Foucalaut 1929-1984" مثليا، و"جاك دريدا - Jack Derrida 1930-2004" يهوديًا من أصلٍ جزائريٍّ (2).

وتمتاز «ما بعد البنيوية» بانتقادها للأنموذج العلمي وتجاهله في كثيرٍ من الأحيان لصالح نماذجَ جماليةٍ (إستيطاقية)، وترى ضرورة مقاومة هيمنة المعرفة العلمية والأنموذج العلمي؛ لأن هذه الفلسفة تُعرِّف التفكير على أنه: ((عمليةٌ داخليةٌ من ناحية، ومستقلةٌ عن العلم من ناحيةٍ أخرى، ووفقًا لهذا؛ فالعلم محدود، ويذهب الفكر عند ما بعد البنيويين إلى ما وراء العلم ليسمح بتقديم رؤىً أكثر تطورًا (3).

وبيَّنت «ما بعد البنيوية» كيف يمكن أن تتحول محدوديةُ المعرفة إلى نوعٍ من العلاقات المدمرة بتقديم دراساتٍ وتجاربَ في مجالاتٍ عدة: ابتداءً من الدراسات التاريخية الطويلة التي أجراها "فوكو"، وتفكيك النصوص الذي قدمه "دريدا"، إلى دراسة الأعمال الفنية واللغويات التي قدمتها "جوليا كريستيفا - Julia Kristiva 1941"، حتى خلق المفاهيم الفلسفية الجديدة على يد "جيل دولوز - 1925 -1955 Gilles Deleuze" (3).

أدَّت دراسة بنية النصوص وتفكيكها إلى تشكيك روَّاد هذا المذهب في الحقائق الثابتة، وفي البنية الثابتة للعلامات اللغوية، وانتقاد فكرة النظام؛ فقد بيَّن "فوكو" -على سبيل المثال- أن اتخاذ مواقفَ شخصيةٍ هو سمةٌ باديةٌ في أنظمة التفكير العلمي في القرن التاسع عشر، فهذا النظام مثلا: يعرِّف (العادي أو السوي - Normal) على أنه (الوضع الافتراضي - Default) في مقابل (الشاذ أو غير السوي - Abnormal) كالمجرم والمجنون والمختلف جنسيا، ويبيِّن "فوكو" أن خصائص تكوُّن هذا النظام الفكري وتغيُّره تجعلانه اعتباطيًا وعارضًا وشخصيا، وفي النهاية؛ يحاول هذا النظام الوصول إلى الشمولية أو التضمُّن من خلال إستراتيجية الاستبعاد؛ إذ يستبعد الآخرَ الذي يُعدُّ وجوده أساسيًا لتعريف ما هو متضمَّنٌ تحت هذا النظام (2).

وكمثالٍ آخر على فشل فكرة الثبات: نجد أن محاولة تحديد الفضاء الذي يشغله الكائن البشري كجسدٍ ووعٍي وأفكارٍ وعقلٍ ونفسٍ وقلب أو تعريفه هي محاولةٌ فاشلة، ولا يمكن أن تصمد عند التحليل، فليس الجِلد عبارةً عن حدودٍ ثابتةٍ بين ما هو داخليٌّ وما هو خارجي، ولكنه مجموعةٌ من الممرات التي تربط الداخل بمجموعةٍ لا متناهيةٍ من العلاقات السببية الأوسع؛ فمولِّد الأجسام أو العقول الواعية وموتها عاجزٌ عن تحديد موضعٍ محضٍ للحياة الإنسانية، فكلاهما يتضمَّنان الاستمرارية الجينية واستمرارية الأفكار ولغات المجتمعات والعالم، ولا يعني هذا أنه ليس ثمَّة ما يُسمَّى بالحياة الإنسانية أو أنها ليست قيِّمة؛ بل يعني أن الحياة ليست مطلقة، وأن الحدود ليست يقينيةً إلى الحد الذي يسمح بتأسيس أنظمةٍ للحقائق، فالكائنات البشرية لا تموت بمعنى النهاية الأبدية دفعةً واحدةً عند نقطةٍ محددةٍ من الزمان والمكان، ولا تولد هذه الكائنات أيضًا إن عدَدْنا الولادةَ نقطةً مطلقةً (3).

وبذلك -حسب «ما بعد البنيوية»-؛ لا يجب أن تُعرَّف الحياة بالعلم فقط، بل بإبداعات التاريخ والمستقبل الموجودة في معانٍ أوسعَ للغة والتفكير والخبرة؛ وهو ما يفسِّر سبب عدم اهتمامهم الكبير بالعلم، فعندما ينتقدون محاولات تقديم رأيٍ علميٍّ للُّغة؛ فإنهم يبيِّنون محدودية العلم، وكيف أنه لا يمكن للعلم وحده أن يقود مستقبل التفكير (3).

يُعدُّ انتقاد الثبات في الحقائق التي يقدمها المنهج العلمي، وانتقاد ثبات المعنى اللغوي، وثبات العلامات لنموذج "دي سوسير - Ferdinand de Saussure 1857-1913" أبرز النقلات من البنيوية إلى «ما بعد البنيوية»، وهو ما أدَّى إلى قراءاتٍ أدبيةٍ جديدةٍ لعل أشهرها (أطروحة موت المؤلف)، وتتناول (أطروحة موت المؤلف) السؤال الخاص بتحديد الكيفية التي يمكننا من خلالها قراءة نصٍّ ما. وفقًا للنقد الأدبي التقليدي يجب علينا دائمًا الرجوع إلى المؤلف، وإذا كان المؤلف ميتًا فإنه يجب أن نقرأ سيرته ويومياته ورسائله حتى نتمكن من فهم مقصد المؤلف. لكن فلسفة «ما بعد البنيوية» تعارض هذا الطرح، وترى أنه ليس هناك إجابةٌ نهائيةٌ عن هذا السؤال؛ لأن اللغة ليست ملكًا لنا، بل كانت موجودةً قبلنا ونحن اكتسبناها من مصادر خارجية، ولأن النصوص عبارةٌ عن موضوعاتٍ من اللغة وليست من الأفكار التي هي نتاجٌ للُّغة وليست مسبِّبًا لها (1).

فالكاتب يكتب من خلال نظام اللغة الذي يُولَد وينشأ فيه، وبالتالي لا يمكن التفكير في النصوص من خلال نوايا مؤلفيها، ولكن يجب التفكير فيها ضمن علاقتها بالنصوص الأخرى، وبموت المؤلف يُحال عبء المعنى على القارئ الذي يقرأ النص، ومن ثمَّ يعيد كتابته وفقًا للعلاقات السوسيولوجية المتفق عليها التي تجعل النص قابلًا للفهم، وفي مرحلة «ما بعد البنيوية» المكتملة أعلن "رونالد بارثش - Ronald Barthes 1915-1980" عن ثنائية النصوص المكتوبة والمقروءة؛ إذ يتطلب النوع الأول جهدًا نشطًا فاعلا من القارئ الذي يجب عليه كتابة النص لنفسه ليعطيه المعنى، أما النوع الثاني فيضع القارئ في موضعٍ سلبي؛ إذ يقبل القارئ المعاني الموجودة في النص (4)، إن الغاية من طرح "بارثش" هو انتقاد المؤسسات النقدية التي تحتكر معاني النصوص الأدبية بجعل معرفة حياة الكاتب والعصر الذي عاشه المفتاح الوحيد لقراءة النص؛ وبذلك تجعل الكاتب مفسِّرًا للعمل؛ وبالتالي تمنع إمكانية التأويلات الجديدة بناءً على مقاصد العلامات نفسها، والخصائص النصية بما تتضمنه من قصةٍ وصورٍ و(نوعٍ - Genre) أو تلميحاتٍ لنصوصٍ أخرى (1).

المصادر : 

1-  Belsey, Catherine. Poststructuralism: a very short introduction. Oxford: Oxford university press. 2002. pp5, 18, 21.

2- McNamara, Tim. Poststructuralism and its challenges for applied linguistics [internet] 2012 (cited 2020 oct 29). available from: هنا

3- Williams, James. Understanding poststructuralism. 1st edition. acumen publishing limited. 2005. P15,16, 22

4- Tylor, Victor E. Winglist, Charles E. (eds).Encyclopedia of postmodernism.1st edition. Routeldge. 2001. Pp309-310